الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله: وَاتَّخَذُوا أي: الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين، اتخذوا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ تعالى آلِهَةً أصناماً، يعبدونها ويستعينون بها، وهم لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، وَهُمْ يُخْلَقُونَ كسائر المخلوقات. والمعنى: أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق، والملك والتقدير، عباداً عجزة، لا يقدرون على خلق شيء، وهم مخلوقون ومصورون. وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة، وهؤلاء لا يقدرون على شيءٍ البتة، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم، أو ضرر من لم يعبدهم؟! وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي: إماتة وَلا حَياةً أي: إحياء وَلا نُشُوراً بعثاً بعد الموت، أي: لا يقدرون على إماتة حي، ولا نفخ الروح في ميت، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك.
وفيه إيذان بغاية جهلهم، وسخافة عقولهم، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل مَن ركن إلى غير الله، أو مال بمحبته إلى شيء سواه، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه، فقد خاب مطلبه ومسعاه لأنه تعلق بعاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ وفي الحِكَمِ:«لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً؟» .
قال بعض الحكماء: من اعتمد على غير الله فهو في غرور لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، وعطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ. وقال وَهْبُ بن منبه: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً. أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته، ولا أبالي في أي وادٍ هلك. هـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا ذكر شأن الفرقان، ذكر من طعن فيه وفيمن نزل عليه، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
يقول الحق جل جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: تمردوا في الكفر والطغيان. قيل: هم النضر ابن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضاهاهم. وقيل: النضر فقط، والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك. قالوا: إِنْ هَذا ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أي: على اختلاقه قَوْمٌ آخَرُونَ، يعنون: اليهود، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل: هم عدَّاس، ويسار «1» ، وأبو فكيهة الرومي، كان لهم علم بالتوراة والإنجيل. ويحتمل: وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: فَقَدْ جاؤُ، وأتوا ظُلْماً أو: بظلم، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل، فتتعدى تعديته، أو بحرف الجر، والتنوين للتفخيم، أي: جاءوا ظلماً هائلاً عظيماً حيث جعلوا الحق البيِّن، الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، إفكاً مفترى من قول البشر، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية، والأمور الغيبية، بحيث لا يناله عقول البشر، ولا تفي بفهمه الفهوم، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. وَأتوا أيضاً زُوراً أي: كذباً كثيراً، لا يُبْلَغُ غايتُه حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه.
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: هو أحاديث المتقدمين، وما سطروه من خرافاتهم كرُستم وغيره. جمع أسطار، أو: أسطورة، اكْتَتَبَها كتبها لنفسه، أو: استكتبتها فكُتبت له، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي: تُلقى عليه من كتابه بُكْرَةً: أول النهار وَأَصِيلًا آخره، فيحفظ ما يتلى عليه ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة، قاتلهم الله، أنَّى يؤفكون؟
(1) فى الأصول: سيار.
قُلْ يا محمد: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، يعني: أن القرآن: لما اشتمل على علم الغيوب، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب، أي: ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق، بإعانة قوم، وكتابة آخرين من الاحاديث والأساطير المتقدمة، بل هو أمر سماوي، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام، على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفهام، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته، وأخبركم بأمور مغيبات، وأسرار مكنونات، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير، ثم جعلتموه إفكاً مفترى، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً، لولا حِلمه ورحمته، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فأمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم، أي: كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله، مع كمال اقتداره.
ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه، فقال: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء، وخط المصحف سُنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم، كأنهم قالوا: أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول يأكل الطعام كما تأكلون، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون، أي: إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ على صورته فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه، ويكون ردءاً له في الإنذار، ويُعبر عنه، ويفسر ما يقوله للعامة.
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء، يستغني به عن طلب المعاش معنا، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها كالأغنياء المياسير. والحاصل: أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة، مستغنياً عن الطعام والشراب، وتعجبوا من كون الرسول بشراً، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز، يستظهر به على نوائبه، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له يستان يأكل منه، كالمياسير، أو نأكل نحن منه، على قراءة حمزة والكسائي.
قال تعالى: وَقالَ الظَّالِمُونَ وهم الكفرة القائلون ما تقدم، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش، أي: قالوا للمؤمنين: إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سُحر فغلب على عقله، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي: انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول، الجارية لغرابتها، مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة، البعيدة عن الوقوع؟! فَضَلُّوا عن طريق الجادة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فلا يجدون طريقاً إليه، أو:
فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه، أو: فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً، فلا