الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرائس الأولياء، ضنّ بهم الحق تعالى عن خلقه، فلم يُظهرهم لأحد، حتى قدموا عليه، وهم الأولياء الأخفياء الأتقياء، كما ورد مدحهم في الحديث «1» . وكلا العزين لله، وبيد الله، فلا يُطلب واحد منهما إلا منه سبحانه.
قال القشيري: وقال في آية أخرى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» فأثبت العزة لغيره، والجمع بينهما:
أن عِزَّة الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّة الرسول والمؤمنين لله فضْلاً، ومنه لطفاً، فإذاً العزة لله جميعا. والكم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة، وقلب طيب، لا كدر فيه ولا أغيار، وقيل: ما ليس فيه حظ للعبد، وقيل: ما يستخرج من العبد، وهو فيه مفقود، وقيل: ما ليس فيه حاجة، ولا يطلب عليه عوض، وقيل: ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف. انظر القشيري.
ويؤخذ من قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه، وينظر إليه، فهو علامة على عدم قبوله، إذ لو قُبل لرفع عن نظره، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده، ويختفي لديك وجوده. والذين يمكرون بالأولياء، المكرات السيئات، لهم عذاب شديد، وهو البُعد من الله، ومكر أولئك هو يبور. وأما الأولياء فهم في حجاب مستور، من كل مكر وخداع وغرور.
ثم ذكر أصل نشأتهم ليتحققوا ضعفهم ووهنهم، فقال:
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
يقول الحق جل جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي: أباكم مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ أنشأكم مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أصنافاً، أو: ذكراناً وإناثاً، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلا معلومة له، وقتاً وكيفية، وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: وما يمد في عمر أحد فيكون طويلاً. وإنما سمّاه معمّراً لِمَا هو صائر
(1) يشير الشيخ المفسر- رحمه الله إلى حديث: «إنَّ للهِ ضَنَائِن من خلقه، يغدوهم فى رحمته، يحييهم في عافية، ويميتهم في عافية، وإذا توفاهم توفاهم إلى جنته، أولئك الذي تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم بها فى عافية» ، عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 2372) للطبرانى، وأبى نعيم فى الحلية، عن ابن عمر رضي الله عنه.
(2)
من الآية 8 من سورة المنافقون.
إليه، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي: يكون عمره قصيراً إِلَّا فِي كِتابٍ أي: اللوح المحفوظ، أو: صحيفة الإنسان. وقال ابن جبير: «مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا، ثم يكتب أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهب ثلاثة، حتى ينقطع عمره» «1» . ففسر النقص بالذهاب، ولا يذهب شيء من عمره إلا في كتاب. ويمكن أن يُجري على ظاهره، باعتبار المحو والإثبات في غير أم الكتاب، كما ورد في صلة الرحم وقطعها. وانظر عند قوله:
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ
…
«2» إلخ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إحصاء الأعمار، أو زيادتها ونقصانها، سهل على علم الله وقدرته.
الإشارة: أصل نشأة الأشباح من الصلصال، وأصل نشأة الأرواح من نور الكبير المتعال، فمَن غلبت طينته على روحانيته، وهواه على عقله، التحق بالبهائم، ومَن غلبت روحانيته على بشريته، وعقله على هواه، التحق بالملائكة الكرام.
وقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ.. الآية، طول العمر وقصره عند الحكماء، ليس هو بكثرة آماده، وإنما هو بكثرة أمداده. وفي الحِكَم:«رُبّ عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده، ورُبّ عمر قليلةٌ آماده، كثيرة أمداده» .
والأمداد: ما يجد القلب من معارف الله، وعلومه، وأنواره، وأسراره. فرُبّ قلب استمد في زمان قليل، من العلوم والمعارف والأسرار، ما لم يستمده غيره في أزمنة متطاولة. وقال أيضاً:«مَن بورك له في عمره، أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة» «3» . والغالب أن هذه الأمداد إنما تُنال بصحبة الرجال العارفين بالله، فإن المدد الذي يحصل له معهم في ساعة واحدة لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
وقال في القوت: فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير، بيقظتك، ما فات غيرك في عمره الطويل بعْد، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع لغيرك في عشرين سنة. وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات، وتدارُكٌ بما فات عند أذكارهم، وأعمال قلوبهم، اليسيرة، في هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح، أو تهليل، أو حمد، أو تدبُّر، أو تبصرة، أو تفكُّر وتذكرة، لمشاهدة قرب، ووجد برب، ونظرة إلى حبيب، ودنو من قريب، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين، الذين هم لنفوسهم واجدون، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين، فيما ذكرناه من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم، في وقت
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 464) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، وأبى الشيخ فى العظمة.
(2)
الآية 40 من سورة الرعد.
(3)
انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 28، حكمة 259، 260) .