الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظرفية نعت لمودة، أي: حاصلة بينكم. ومن رفع: فله وجهان إما خبر أن، و (ما) موصولة، أو: عن مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، و (بينكم) : مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جل جلاله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، قاله بعضهم لبعض، أو: قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا فى حكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ حين قذفوه فيها بأن جعلها برداً وسلاماً. وتقدم في الأنبياء تمام القصة.
إِنَّ فِي ذلِكَ فيما فعلوه به وفعلناه لَآياتٍ دالةً على عظم قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمل فيها. رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
وَقالَ إبراهيمُ لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناماً آلهة مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا، وتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها، كما تنفق الناس على مذهب أو طريق، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو: إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم، أو: إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي: تتبرأ الأصنام من عابديها كقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1» ، أو: ينكر بعضكم بعضا، ويقع بينكم التباغض كقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «2» . وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فتلعن الأتباعُ الرؤساء وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي: مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يحصنونكم منها.
الإشارة: الإنكار على أهل الخصوصية سُنَّة الله في خلقه، فلا يأنف منها إلا جاهل، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، وهم المتحابون في الله، المجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
(1) من الآية 82 من سورة مريم.
(2)
الآية 67 من سورة الزخرف.
يقول الحق جل جلاله: فَآمَنَ لإبراهيم، أي: انقاد لَهُ لُوطٌ، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَقالَ إبراهيم: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من «كوثى» ، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين «1» ، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته.
وقيل: القائل: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي: إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله: عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. هـ. يعني: الهجرة إلى الحبشة. وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة ففي البخاري عن البراء: أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم «2» ،.
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائى، الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً، وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل لشهرته، أو: لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي: في ذرية إبراهيم، فإنه شجرة الأنبياء، وَالْكِتابَ يريد به الجنسَ ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أي: الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو: هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو: المال الحلال، واللفظ عام. وفيه دليل على أنَّ الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة: الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين: هجرة حسية، وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله، أو الإذاية والإنكار، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية: هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة.
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 238) .
(2)
أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، ح 3925) من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه.