الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى:.. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ.. في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ يقال: إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
ثم ذكر رجوع الأحزاب، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 25 الى 27]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
يقول الحق جل جلاله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: الأحزاب بِغَيْظِهِمْ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» أي: ردهم غائظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً ظفراً، أي: لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه «خيراً» بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي: غير ظافرين، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح، والملائكة، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ: عاونوا الأحزاب وجاءوا بهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، يعني بني قريظة، أنزلهم مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. والصيصة:
ما يتحصّن به قال الهروي: وكل ما يتحصّن به فهو صيصة، ويقال لقرون البقر والظبي: صَيَاصي لأنها تتحصن بها، وفي وصف أصحاب الدجال:«شواربهم كالصياصي» ، لطولها، وفتلها، فصارت كالقرون. هـ.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة- على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال: ما هذا يا جبريلُ؟ فقال: من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال: إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طعمة.
(1) من الآية 20 من سورة المؤمنون.
وفي رواية: لَمَّا رجع- عليه الصلاة والسلام ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلُون على حُكْمي؟ فأبَوْا، فقال: تنزلون عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذِ؟ فرضوا به. فقال سعد: نحكم فيهمْ: أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» «1» .
ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل: كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير- رضى الله عنهما- يضربان أعناق بني قريظة. والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير «2» .
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف. وفيه السكون والضم، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضى الله عنهما: لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن «3» .
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ كالمواشي والنقود والأمتعة. رُوِي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، وقال لهم:«إنكم فى منازلكم» . وَأورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعدُ، قيل: خيبر، ولم يكونوا نالوها، أو: مكة، أو: فارس والروم، أو: كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة، فمكّنهم الله من ذلك كله، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً، فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة: هذه عادة الله مع خواصه، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم، ويذلهم ثم يعزهم، ويفقرهم ثم يغنيهم، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ
…
الآية. ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره، أمرهم بأمر الله، وحكمهم بحكمه، والله غالب على أمره.
(1) أخرجه الطبري فى التفسير (21/ 153) . وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» ، انظر صحيح البخاري (المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب. ح 41117، 4119) ومسلم (الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، 3/ 1388- 1389، ح 64- 65- 66) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أرقعة» يعنى سبع سموات. وكل سماء يقال لها: (رقيع) . انظر النهاية (رقع) . ولسان العرب (3/ 1705) .
(2)
راجع السيرة لابن هشام (3/ 333- 343) .
(3)
أخرجه الطبري (21/ 153- 154) .