الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بيّن أنه لا يطلب أجرا على الإنذار إزاحة للتهمة عنه، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 47]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
يقول الحق جل جلاله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ عليه أي: على إنذاري وتبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ، إذ لو كنت كذلك لا تهمتمونى أني أطمع في أموالكم. وما طلبتُ من ذلك فَهُوَ لَكُمْ، ومعناه: نفي سؤاله الأجر رأساً. نحو: ما لي في هذا فهو لك، وما تعطني تصدق به على نفسك. إِنْ أَجْرِيَ في ذلك إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيعلم أني لا أطلب الأجر في نصيحتكم، ودعائكم إليه، إلا منه تعالى.
الإشارة: تقدم مراراً أن الدعاة إلى الله ينبغي لهم أن يتنزّهوا عن الطمع في الناس جهدهم، ولو اضطروا إلى ذلك إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام، والتعفُّف التام عما في أيدي الناس، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حُجةً، يدمغ بهم على الباطل، كما قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 48 الى 50]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
يقول الحق جل جلاله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: بالوحي، فيرمي به على الباطل، من الكفر وشبهه، فيدمغه، أو: يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإسلام، أو: يلقيه وينزله إلى أنبيائه.
والقذف: رمي السهم ونحوه بدفع واعتمادٍ، ويستعار لمطلق الإلقاء، ومنه: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «1» . تمّ وصف الرب بقوله: عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي: هو علام الغيوب.
قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي: الإسلام، أو: القرآن، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي: زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي، فعدمهما عين الهلاك، والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ «2» قال الكواشي: المعنى: ذهب الباطل لمجيء الحق، فلم يبقَ له بقية حتى يبدئ شيئاً أو يعيده. ثم
(1) من الآية 26 من سورة الأحزاب.
(2)
الآية 81 من سورة الإسراء.
قال: وهذا مثلٌ، يقال: فلان لا يبدئ ولا يعيد، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي: الباطل: إبليس، ما يبدىء ولا يعيد: لا يخلق ولا يبعث، والله تعالى هو المبدئ المعيد، ومعناهما: الخالق الباعث. وقال في الصحاح:
وفلان ما يبدئ وما يعيد، أي: ما يتكلم ببادية ولا عائدة، ومثله في القاموس.
والحاصل: أنه عبارة عن زهوق الباطل، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح، وحَوْلَ الكعبة أصنام، فجعل يطعنُها بعودٍ، فتقطع لقفاها، ويقول:«جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الباطل كان زهوقا. قل جاء الحق وما يبدئ الباطلُ وما يُعيد» «1» .
ولما قالوا له صلى الله عليه وسلم: قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال ضلالي عليها، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي: فبتسديده بالوحي إِليّ. وكان قياس المقابلة أن يقال: وإن اهتديتُ فإنما أهتدي لها، كقوله: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «2» ، ولكن هما متقابلان معنًى لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها، وما لها مما ينفعها، فهو بهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسولَه أن ينسبه إلى نفسه تشريعاً لغيره لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره؟. إِنَّهُ سَمِيعٌ لما أقوله لكم، قَرِيبٌ مني ومنكم، فيجازيني ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
الإشارة: الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو: ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر:
فلم يبق إلا الله لم يبق كائن
…
فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى
…
بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفي القوت في تفسير الآية: أي: لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي:
كشف ما يبدىء الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني: أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. هـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه:(إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي..) الآية.
(1) أخرجه البخاري فى (المظلم، باب: هل تكسر الدنان التي فيها خمر، ح 2478) ومسلم فى (الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة 3/ 1408. ح 1781) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
الآية 41 من سورة الزمر.