الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل- عليهم السلام. وفي قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ: تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى من أقاويل الكفرة ليبطلها كما أبطل ما قبلها، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
قلت: (وقال) : عطف على: (وقالوا مال هذا الرسول
…
) إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكى عنهم من الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله- عز وجل.
يقول الحق جل جلاله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة. والحاصل: أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل: لا يخافون لقاءنا لأن الرجاء في لغة تهامة: الخوف، قالوا: لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ رسلاً دون البشر، أو: يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك عناداً وعتواً.
قال تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو: عظموا فى أنفسهم حتى اجترءوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، وَعَتَوْا أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان عُتُوًّا كَبِيراً بالغاً أقصى غاياته، أي: إنهم لم يجترءوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
…
إلى قوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «1» . ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام: جواب قسم محذوف، أي: والله لقد استكبروا..
الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى.
(1) الآيات: 90- 92 من سورة الإسراء.
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ عند الموت أو البعث. ويَوْمَ: منصوب باذكر، أو بما دلّ عليه: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنه بمعنى: يُمنعون البشرى، أو: لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة: استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون، دون أن يقال: يوم تنزل إيذاناً، من أول الأمر، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير (يومئذٍ) لتأكيد التهويل، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط فإن ذلك مُخل بتفيظع حالهم. و (للمجرمين) :
تعيين على أنه مظهر، وُضِعَ موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالإجرام، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان.
وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً على ما ذكر من الفعل المنفي، أي: لا يبشرون، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر، وغاية هول مطلعه، أي: يقولون، عند مشاهدة ملائكة العذاب: حِجْراً محجوراً، أي: منعاً ممنوعاً منكم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل، أو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، فكأن المعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً، ويحجره عنا حجراً. والمعنى: أنهم يطلبون نزول الملائكة- عليهم السلام ويقترحونه، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا، عند رؤيتهم، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
وقيل: هو قول الملائكة، أي: تقول الملائكة للمجرمين، حين يرونهم: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرماً عليكم البشرى، أي: جعل الله ذلك حراماً عليكم، إنما البشرى للمؤمنين. و (الحجر) : مصدر، يُفتح ويكسر، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً: لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على «حِجْراً» فلعله الأوجه له.
ثم ذكر مآل أعمالهم، فقال: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً الهباء: شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس، يطلع من كُوَّة. والقدوم هنا: مجاز. مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقِرى ضيف، وعِتقٍ، ونحو ذلك، بحال من خالف سلطانه، فقدم إلى أشيائه، وقصد إلى ما تحت يديه، فأفسدها، ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً، أي: عمدنا إليها وأبطلناها، أي: أظهرنا بطلانها بالكلية، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور: المفرّق، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
ثم ذكر ضدهم، فقال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي: مكاناً يستقرون فيه، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات، للتجالس والتحادث، وَأَحْسَنُ مَقِيلًا: مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقيلا على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال سعيد الصواف: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس. وقرأ هذه الآية. هـ. وأما الكافر فيطول عليه، كما قال تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» .
قال أبو السعود: وفي وصفه بزيادة الحسن، مع حصول الخيرية، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف.
والتفضيل المعتبر فيهما: إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي: هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا، أو إلى ما لهم في الآخرة، بطريق التهكم بهم، كما مرّ في قوله: أَذلِكَ خَيْرٌ.. الآية. هـ.
الإشارة: هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها، وهي الإيمان بالله، والإخلاص، والخضوع لمن يدل على الله، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله. ولذلك قال تعالى في وصفهم- الذي منعهم من شهوده تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي: ولو صغروا في أنفسهم، وخضعوا خضوعاً كبيراً لحصل لهم ما طلبوا، ولبُشروا بما أملوا، وفي ذلك يقول الشاعر:
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ
…
إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ
تذلَّلْ لَهُ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ
…
فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ
وقيل لأبى يزيد رضي الله عنه، حين قام يصلي بالليل: يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً، فدخلت وقلت: هلموا إلى ربكم. أو كما قال.
وفي قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ.. الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الأولى، فيقول المَلَكُ: ردوه، واضربوا به وجهه إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى
(1) من الآية 4 من سورة المعارج.