الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: الاستبصار في أمور الدنيا، والتحديق في تدبير شؤونها، حمق وبطالة «1» ، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه، والفحص عن ذلك، والتفكر في عواقب الأمور من شأن العقلاء الأكياس، قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإن من علامات العقل:
التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور» ، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:
«الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت، والأحمقُ من أتْبَعَ نَفْسَهُ هواها، وتمنَّى على اللهِ الأمانى» «2» ، وقيل للجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل؟ فقال: إذا كان للأمور متميزاً، ولها متصفحاً، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه. ثم قال: فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغُلُ به، والعملُ له، عن أمور الآخرة، التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها.. إلخ كلامه.
وقد ضرب الله مثلاً لمن ركن إلى غير الله، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَاّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
(1) الاستبصار في أمور الدنيا فرض لازم للأمة.. ينبغى أن تتعاون الأمة لإقامته في كل أمر من أمور الدنيا، وشأن من شئونها، وعلى العاقل- ما لم يكن مغلوبا على عقله- أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلا على شأنه.
(2)
أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (صفة القيامة والرقائق، باب 25 ح 2/ 1423 ح 4260) ، وابن ماجة فى (الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، 2/ 1423 ح 4260) من حديث شداد بن أوس.
يقول الحق جل جلاله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أصناماً يعبدونها، أي: مَثَلُ من أشرك بالله الأوثان في الضعف، وسوء الاختيار، كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، أي: كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإنه لا يدفع الحر والبرد، ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان، لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، بل هى أو هى وأضعف، فإن لبيت العنكبوت حقيقةً وانتفاعاً عاماً، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي: أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بَيْتَ أوهن من بيته إذْ أضعف شيء يسقطها. عن عليّ رضي الله عنه: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه يُورث الفقر» .
والعنكبوت يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجمع على عناكيب وعناكب وعِكاب وعكَبَة وأعكُب.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن هذا مثلُهم، وأنَّ ما تمسّكوا به من الدين أرق من بيت العنكبوت. وقال الزجاج:
تقدير الآية: مثل الدين اتخذوا من دون الله أولياء، لو كانوا يعلمون، كمثل العنكبوت. وقيل: معنى الآية: مَثَلُ المشركِ يعبد الوثن، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجُرٍّ وجص، أو جص وصخور، فكما أن أوهن البيوت، إذا استقرأتَهَا بيتاً بيتاً، بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان، إذا تتبعتها ديناً ديناً، عبادةُ الأوثان.
وقال الضحاك: ضرب مثلاً لضعف آلهتهم ووهنها، فلو علموا أن عبادة الأوثان، في عدم الغنى، كما ذكرنا في المثل، لَمَا عبدوها، ولكنهم لا يعلمون، بل الله يعلم ضَعف ما تعبدون من دونه وعجزه، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ «1» مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، أي: يعلم حاله، وصفته، وحقيقته، وعدم صلاحيته لِمَا تؤملونه منه، فما:
موصولة، مفعول «يعلم» ، وهي تامة، أي: يتعلق علمه بجميع ما يعبدونه من دونه، أيّ شيء كان. أو ناقصة، والثاني محذوف، أي: يعلمه وهياً وباطلاً. وقيل: استفهامية معلقة، وأما كونها نافية فضعيف، و «من» ، الثانية للبيان، ومن قرأ بالخطاب فعلى حذف القول، أي: ويقال للكفرة: أن الله يعلم ما تعبدونه من دونه من جميع الأشياء، أو: أيّ شيء كان.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا شريك له، الْحَكِيمُ في ترك المعاجلة بالعقوبة، وفيه تجهيل لهم، حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيمُ الذي لا يفعل إلا لحكمة وتدبير.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الغربية، أي: هذا المثل ونظائره نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نبيّنها لم تقريباً لما بَعُدَ عن أفهامهم. كان سفهاء قريش وجهَلَتُهم يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من
(1) قرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: يدعون بياء الغيب. وقرأ الباقون بالخطاب. انظر: الإتحاف 2/ 351.