الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي: يمنعهما من أن تزولا لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين: أن السموات هي الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب، كما في الثعلبي، تحامل إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة، وانظر عند قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها.. «1» قال القشيري: أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، وزينهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإمساكهما يُسَاهِمُه، ولا شريك في إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. هـ.
وَلَئِنْ زالَتا، على سبيل الفرض، إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، من بعد إمساكه. و «من» الأولى:
مزيدة، لتأكيد النفي، والثانية: ابتدائية، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً، غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.. «2» الآية.
الإشارة: الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح، بين سماء المعاني وأرض الحس، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول: عالم التعريف، والثاني:
عالم التكليف. الأول: محل التنزيه، والثاني: محل التشبيه، الأول: محل أسرار الذات، والثاني: محل أنوار الصفات، مع اتحاد المظهر إذ الصفات لا تفارق الموصوف، فافهم. وفي بعض الأثر:«إن العبد إذا عصى الله استأذت السماء أن تسقط عليه من فوقه، والأرض أن تخسف من تحته، فيمسكهما الله تعالى بحلمه وعفوه، ثم تلى الآية: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إلى قوله: كانَ حَلِيماً غَفُوراً» هـ. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم، تتميماً لقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ.. إلخ، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 44]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَاّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)
(1) الآية 38 من سورة يس.
(2)
الآية 90 من سورة مريم.
قلت: «جهد» : نصب على المصدر، أو على الحال. و «استكبار» و «مكر» : مفعول من أجله أو حال.
يقول الحق جل جلاله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي: إقساماً وثيقاً، أو: جاهدين في أيمانهم:
لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ المهتدية، بدليل قوله:(أهدى) وقوله في سورة الأنعام: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1» وذلك أن قريشاً قالوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم: لعن الله اليهود والنصارى، أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم «2» ، أي: من الأمة التي يقال فيها: هي أهدى الأمم، تفضيلاً لها على غيرها في الهُدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة: هي أهدى الدواهي. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي: ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق، وهو إسنادٌ مجازيّ إذ لا فاعل غيره.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي: ما زادهم إلا تهورا للاستكبار ومكر السيّء. أو: مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، المكر القبيح، وهو إجماعهم على قتله. عليه الصلاة والسلام، وإذاية مَن تبعه.
وأصل قوله: (ومكر السيئ) : وأن مكروا المكر السيّء، فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف إلى صفته اتساعاً، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع. وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي: لا يحيط وينزل المكر السيّء إلا بمَن مكره، وقد حاق بهم يوم بدر. وفي المثل: مَن حفر حفرة وقع فيها.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ: ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين، من العذاب المستأصل، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، بيّن أن سُنَّته- التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل- سُنَّة ماضية، لا يبدلها في ذاتها، ولا يحوّلها عن وقتها، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ممن كذَبوا رسلهم، كيف أهلكهم الله ودمرهم، كعاد، وثمود، وقرى قوم لوط. استشهد عليهم بما كانوا يُشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق، من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم ودمارهم. وَقد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً واقتداراً، فلم يتمكنوا من الفرار، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ أيَّ شيء كان فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأحوالهم قَدِيراً على أخذهم. وبالله التوفيق.
(1) من الآية 157 من سورة الأنعام.
(2)
قاله الضحاك، فيما ذكره ابن كثير فى تفسيره (3/ 562) .