الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر، ولم يقل: ظننتم بأنفسكم خيراً، وقلتم ليبالغ فى التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسيء الظن بأحد من المؤمنين.
وَقالُوا عند سماع هذه الفرية: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ هلَاّ جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، ولم يقل:«بهم» لزيادة التقرير، فَأُولئِكَ الخائضون عِنْدَ اللَّهِ أي: في حُكمه وشرعه هُمُ الْكاذِبُونَ الكاملون في الكذب، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حُسْن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله، ولا سيما ما فيه حرمة من حُرَم الله. قال القشيري على الآية: عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وتَرْكِ الإعراضِ عن حُرمة بيت نبيهم. ثم قال: وسبيلُ المؤمن ألا يستصغر في الوفاق طاعة، ولا في الخلاف زَلَّةً، فإِنَّ تعظيمَ الأمْرِ بتعظيم الآمرِ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول- عليه الصلاة والسلام فذلك أعظم عند الله، ولذلك بالغ في التوبيخ على ما أقدموا عليه، مما تأذى به الرسول، وقلوب آل الصدِّيق، وقلوب المخلصين من المؤمنين. هـ ثم قال تعالى:
[سورة النور (24) : الآيات 14 الى 18]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
قلت: (لولا) هنا: امتناعية بخلاف المتقدمة فإنها تحضيضية، و (إذ سمعتموه) : معمول لقُلتم، و (إذْ تلقونه) :
ظرف لمسَّكم.
يقول الحق جل جلاله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها السامعون وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا من فنون النِعَم، التي من جملتها: الإمهال والتوبة، وَفى الْآخِرَةِ من ضروب الآلاء، التي من جملتها: العفو
والمغفرة، لَمَسَّكُمْ عاجلاً فِيما أَفَضْتُمْ أي: بسبب ما خضتم فِيهِ من حديث الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ يُستحقر دونه التوبيخ والجَلْدُ، يقال أفاض في الحديث، وفاض، واندفع: إذا خاض فيه.
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أي: لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له، يقال: تلقى القول، وتلقنه، وتلقفه، بمعنى واحد، غير أن التلقف: فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة، أي: إذ تأخذونه بِأَلْسِنَتِكُمْ بأن يقول بعضُكم لبعض: هل بلغك حديث عائشة، حتى شاع فيما بينكم وانتشر، فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه. وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
أي: قولاً لا حقيقة له، وقيّده بالأفواه، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب، ثم يترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور فى الأفواه، من غير ترجمة عن علم به في القلب. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي: وتظنون أن خوضكم في عائشة سَهْلٌ لا تبعة فيه، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي: والحال أنه عند الله كبير، لا يُقادر قدره في استجلاب العذاب. جزع بعض الصالحين عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف ذنباً لم يكن مني على بال، وهو عند الله عظيم.
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ من المخترعين والشائعين له قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا ما يمكننا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، وما ينبغي أن يصدر عنا، وتوسيط الظروف بين «لولا» و «قلتم» إشارة إلى أنه كان الواجب أن يُبادروا بإنكار هذا الكلام في أول وقت سمعوه، فلما تأخر الإنكار وبَّخهم عليه، فكان ذكرُ الوقت أَهَمَّ، فقدّم، والمعنى: هلَاّ قُلتم إذ سمعتم الإفك: ما يصح لنا أن نتكلم بهذا، سُبْحانَكَ تنزيهاً لك، وهو تعجبٌ مِنْ عِظَمِ ما فاهوا به.
ومعنى التعجب في كلمة التسبيح: أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. أو: تنزيهاً لك أن يكون في حرم نبيك فاجرة، هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ لعظمة المبهوت عليه، واستحالة صدقه، فإنَّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها. وقال فيما تقدم: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ «1» . ويجوز أن يكونوا أُمروا بهما معاً، مبالغة في التبري.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي: ينصحكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي: كراهة أن تعودوا، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع، أَبَداً مدة حياتكم، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة.
وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو الإيمان الصادُّ عن كل قبيح.
(1) الآية 12 من سورة النور.