الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة، فأدخله الحجاج بيتاً، وأغلق عليه بابه، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً، ولم يشك أنه مات، فوجده قائماً يُصلي، فقال: يا فاسق، تصلي بغير وضوء؟ فقال: إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها. هـ. ومكث سفيان الثوري بمكة دهراً، وكان يَسفُّ من السبت إلى السبت كفاً من الرمل. هـ. وهذا من باب الكرامة، فلا يجب طردها، وقد تكون بالرياضة، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دعاء إبراهيم عليه السلام، فقال:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
يقول الحق جل جلاله، حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي: حكمة، أو حُكماً بين الناس، أو نبوة لأن النبي ذو حُكم بين عباد الله. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي: الأنبياء، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة، وصلحت سرائرهم للحضرة، ولقد أجابه بقوله: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي: ثناءً حسناً، وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي، فأُعطي ذلك، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه، ووضَعَ اللسانَ موضعَ القول لأن القول يكون به. أو: واجعلني على طريق قويم، وحال مُرضي، يُقتدى بي فيهما، ويُحمد أثري بعد موتي، كما قيل:
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا
…
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ.
وقد تحقق له جميع ذلك، وخصوصاً في هذه الأمة، حتى أنه مذكور ومقرون في كل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: سأل أن يجعله صالحاً، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذباً. وقيل: سأل الإمامة في التوحيد والدين، وقد أجيب بقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «1» هـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي: اجعلني وارثاً من ورثة جنة النعيم، أي: الباقين فيها، وَاغْفِرْ لِأَبِي، أي: اجعله أهلاً للمغفرة، بإعطاء الإسلام إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ: الكافرين، أو: اغفر له على حاله.
(1) من الآية 124 من سورة البقرة.
وكان قبل النهي. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي: لا تُهنِّي يوم يبعثون. الضمير للعباد لأنه معلوم، أو: للضالين، أي: لا تخزني في أبي يوم البعث، وهذا من جملة الاستغفار لأبيه، وكان قبل النهي عنه، أي: لا تُهِنِّي، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، أي: لا ينفع فيه مال، وإن كان مصروفاً في وجوه البر، ولا بنون، وإن كانوا صُلحاء متأهلين للشفاعة، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الكفر والنفاق فإنه ينفعه ماله المصروف في طاعة الله، ويشفع فيه بنوه، إن تأهلوا للشفاعة، بأن أَدَّبَهُمْ ودرَّجهم إلى اكتساب الكمالات والفضائل.
وقال ابنُ المسيَبِ: القلب السليم هو قلب المؤمن فإن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» . وقال أبو عثمان: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن على السنة. وقال الحسن بن الفضل: سليم من آفات المال والبنين، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد استعمل إبراهيم عليه السلام الأدب، الذي هو عمدة الصوفية، حيث قدّم الثناء قبل الطلب، وهو مأخوذ من ترتيب فاتحة الكتاب. وقوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً: قال القشيري: أي: على نفسي أولاً، فإن من لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بالقيام بحقك، دون الرجوع إلى طلب الاستقلال لنفسي دون حقك. هـ.
ومما اصطلحت عليه الصوفية أن الصالحين: من صلحت ظواهرهم، وتطهرت قلوبهم من الأمراض. وفوقهم الأولياء، وهم من كُشف عنهم الحجاب، وأفضوا إلى الشهود والعيان، وفوقهم درجة النبوة والرسالة، فقول الخليل وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وكذلك قال الصدِّيق، هو تنزل وتواضع ليعرف جلالة قدر الصالحين، فما بالك بمن فوقهم! فهو كقول نبينا صلى الله عليه وسلم:«اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المسَاكين» «2» . أي:
اجعل المساكين هم قرابتي، المحدقون بي في المحشر، فقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم بفضيلة المساكين، وعظَّم جاههم، بطلبه أن يكونوا في كفالته، لا أنه في كفالتهم، وكذلك الخليل والصدِّيق، عَرَّفا بفضيلة الصالحين من أهل الإسلام، لأ أنهما طلبا اللحوق بهم.
وقوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ كل من اخلص وجهه لله، وتخلصت سريرته مما سوى الله، وكان إبراهيمياً حنيفياً، جعل الله له لسان صدق فيمن يأتي بعده، وحسن الثناء عليه في حياته وبعد مماته، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريلُ: إنَّ اللهَ يُحب فلاناً فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبريل، ثم ينادي جبريل
(1) من الآية 10 من سورة البقرة.
(2)
أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، 4/ 499، ح 2352) ، والبيهقي فى الكبرى (7/ 12) من حديث أنس بن مالك، وأخرجه ابن ماجة فى (الزهد، باب مجالسة الفقراء، 2/ 1381- 1382، ح 4126) والحاكم فى المستدرك (4/ 322) ، وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث أبي سعيد الخدري.