الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال البيضاوي: وأصله: فعموا عن الانباء، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء: ما أجابوا به الرسل، أو: ما يعمها وغيرَها، فإذا كانت الرسل يتلعثمون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من البُهم؟. هـ.
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة، أو: عن العذر والحجة، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بربه وبمن جاء من عنده، وَعَمِلَ صالِحاً أي: جمع بين الإيمان والعمل، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم.
و «عسى» ، من الكِرام، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام، وترغيب للكافرين في الإيمان. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال الذين حق عليهم القول بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم: ربنا هؤلاء الذين أغوينا زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم: ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنباء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن الله تعالى بعض صفاته الحسنى، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ، لا موجب عليه، ولا مانع له، وفيه دلالة على خلق الأفعال. وَيَخْتارُ ما يشاء، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي: وظاهره: نفي الاختيار عنهم رأساً،
والأمر كذلك عند التحقيق فإنّ اختيار العبد مخلوق لله، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها، وقيل: المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه، فلذلك خلا عن العاطف، يعني قوله: ما كانَ.. إلخ، ويؤيده: ما رُوِيَ أنه نزل في قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» هـ. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي: ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما، وله الخيرة عليهم. والخيرة: من التخير، تستعمل مصدراً بمعنى التخير، وبمعنى المتخيّر، ومنه: محمد خيرة الله من خلقه، ولم يدخل العاطف في ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ لأنه مقرر لِمَا قبله، وقيل:«ما» :
موصولة، مفعول بيختار، والراجع إليه: محذوف، أي: ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. هـ. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال، ويجاب: بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
سُبْحانَ اللَّهِ، أي: تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، أي: تعاظم عن إشراكهم، أو: عن مشاركة ما يُشركون به.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ: تُضمر صُدُورُهُمْ من عداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام وحسده، وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة. وَهُوَ اللَّهُ المستأثر بالألوهية المختص بها، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، تقرير له، كقولك: الكعبة قبلة، لا قبلةَ إلا هي. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أي:
في الدنيا، وَالْآخِرَةِ لأنه المُولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «3» ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» ، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
الإشارة: في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم:«أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك» .
وقال سهل رضي الله عنه: ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم: هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحبه تصميم بأن كان عَزْمه محلولا،
(1) الآية 31 من سورة الزخرف، وانظر تفسير البغوي (6/ 218)
(2)
من الآية 34 من سورة فاطر. [.....]
(3)
من الآية 74 من سورة الزمر.
(4)
الآية 75 من سورة الزمر.
أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به. قال القشيري- بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى: لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيار العبد عليه غيرُ مُبَارَكٍ له لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم:
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم «1»
…
لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار «2» والاختيار؟! وما للملموك والمِلْك؟! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك؟! قال تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ. هـ. وقال آخر في هذا المعنى:
العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ
…
والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ
والخيرُ أجمعُ: فيما اختار خالقنا
…
وفي اختيارِ سواه: اللومُ والشُّومُ.
فإذا علمت، أيها العبدُ، أن الحق تعالى هو الذي يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل: العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى «3» . قال اللجائي فى
(1) فى القشيري: ومعان إذا ادعاها سواه
…
(2)
أي: الذي اختاره الله..
(3)
قلت: هذه منزلة، وهناك منزلة أعلى وأحلى، نفهمها إذا قررنا أصلا، وهو: أن حكم الله واختياره، ثلاثة أنواع:
الأول: حكم الله الديني، الشرعي، واختياره، ومراده الديني.. وهذا موقفنا منه الخضوع والتسليم، والرضا والقبول، والعمل.
الثاني: حكم الله الكونى، القدري، الذي لا اختيار لنا فيه، كمصيبة الموت، وجائحة فى مال، وإذاية ظالم لا نقدر عليه، وما أشبه ذلك، وهذا موقفنا منه التسليم، والصبر، وفوقه: الرضا بهذا القضاء، الذي لا اختيار لنا فيه.
الثالث: حكم الله الكونى القدري، واختياره الكونى القدري- الذي لنا فيه قدرة واختيار، كمرض يمكن دفعه بالدواء، وفقر يمكن دفعه بالتكسب وطلب الغنى، وهزيمة يمكن دفعها بالجهاد والكفاح.. إلخ، وهذا موقفنا منه: هو المنازعة، والمبالغة، والمدافعة، وانتبه معى لقول سيدنا عبد القادر الجيلاني- الشيخ القدوة، العارف، قال ما ملخصه:(الناس إذا ذكر القدر أمسكوا، إلا أنا، فقد انفتحت لى فيه روزنة [طاقة- نافذة] فنازعت أقدار الحق، بالحق، للحق) . فهذا فى النوع الثالث من حكم الله واختياره، ننازعه، بالحق، للحق، والشيخ القدوة، لم يبتدع ذلك، وحاشاه، رحمه الله وقدس روحه- بل هو انتزعه من حديث نبوى شريف، أخرجه أحمد فى المسند (2/ 421) والترمذي فى (الظب، باب 21، 4/ 349، ح 2065) وابن ماجه فى (الطب، باب 1، 2/ 1137، ح 3437) من حديث أبى خزامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت [يعنى: أخبرنا عن]- رقىّ نسترقيها، وأدوية نتداوى بها: أترد من قدر الله؟ قال: «هي من قدر الله» الله أكبر: فقدر المرض، ننازعه بقدر العلاج والدواء، وقدر الفقر المالى ننازعه بقدر الكسب وإصلاح المال، وقدر الهزيمة ننازعه بقدر الجهاد والاستعداد، وقدر التخلف الحضارى ننازعه بقدر الفعالية الحضارية، وقدر انتشار الوباء كالطاعون، والكوليرا- ننازعه بقدر الاحتماء، والتطعيم العام.. إلخ، كما فعل سيدنا عمر: مع طاعون الشام، فلم يدخل الشام- عند ما سمع بانتشار الطاعون فيها، وكان ذاهبا إليها، فقيل له: أتفر من قدر الله؟! قال: (نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فالمؤمن العارف يصول بالحق للحق.