الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يُقرب إلى الله، ويوصل إلى رضوان الله، ويدخل العبد على مولاه لأنه باب الله الأعظم، والواسطة الكبرى بين الله وبين عباده، فمن عظَّمه صلى الله عليه وسلم وبجّله وخدمه أتم الخدمة، أدخله الحضرة، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال. ومن حاد عن متابعتة فقد أتى البيت من غير بابه كمن دخل حضرة الملك بالتسور، فيستحق القتل والطرد والبُعد. وإدخاله على الله: دلالته على من يعرفه بالله، وقد يوصله بلا واسطة، لكنه نادر. ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده الله وأبعده، وانسحب عليه قوله: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، وكان ممن اتخذ إلهه هواه، وكان كالبهائم، أو أضل لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعاً لما جاء من عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جئتُ به» .
وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل توحيده، بعد بيان من غفل عنها وضل، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 50]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً (50)
يقول الحق جل جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلى رَبِّكَ أي: ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام، لتشريفه وتبجيله، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته، كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي: بسطه حتى عمَّ الأرض، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس، في قول الجمهور لأنه ظل ممدود، لا شمس معه ولا ظلمة، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل: مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار من شجر، أو مدر، أو إنسان، ثم قبضها وردها إلى المشرق.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس، أو: لا ينتقص بسيرها. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ
عَلَيْهِ
أي: على الظل دَلِيلًا، لأنه بالشمس يُعرف الظل، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل، ولا ظهر له أثر، فالأشياء تُعرف بأضدادها.
ثُمَّ قَبَضْناهُ أي: أخذنا ذلك الظل الممدود إِلَيْنا إلى حيث إرادتنا قَبْضاً يَسِيراً أي: على مهل قليلاً قليلاً، حسب ارتفاع دليله، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي: جعل الظلام الساتر كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي: راحة لأبدانكم، وقطعاً لأعمالكم. والسبت: القطع، والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته، وقيل السبات: الموت، والميت مسبوت لأنه مقطوع الحياة، كقوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «1» . ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي: ذا نشور، أي: انبعاث من النوم، كنشور الميت، أو: ينشر فيه الخلق للمعاش.
وهذه الآية، مع دلالتها على قدرته تعالى، فيها إظهار لنعمته تعالى لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي النوم واليقظة- المشبهين بالموت والبعث- عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، وعن المكي بالإفراد، نَشْراً «2» : جمع نشور، أي: أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: أرسلها قدام المطر، لأنه ريح، ثم سحاب، ثم مطر. وقرأ عاصم بالباء، أي: مبشرات بالمطر. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء طَهُوراً أي: مطهراً بالغاً في التطهير، كقوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «3» وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء والوقود، لِمَا يتوضأ به ويوقد به. وقيل: طهور في نفسه، مبالغة في الطاهرية، فالطهور في العربية يكون صفة، كما تقول: ماء طهور، واسماً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
«التراب طهور، والمؤمن طهور» ، وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة، كقولك: تطهرت طهوراً حسنا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة إلا بطهور» «4» . ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك ليكون أبلغ في النعمة، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته، أي: أنزلناه كذلك.
لِنُحْيِيَ بِهِ أي: بالمطر الطهور بَلْدَةً مَيْتاً بالجدب والقحط، فحييت بالنبات والعشب. والتذكير لأن البلدة بمعنى البلد، والمراد به: القطعة من الأرض عامرة أو غامرة. وَنُسْقِيَهُ أي: ذلك الماء الطهور، عند
(1) من الآية 60 من سورة الأنعام.
(2)
قرأ عاصم: «بشرا» بالباء، وقرأ الباقون «بالنون» .. انظر الإتحاف (2/ 309) .
(3)
من الآية 11 من سورة الأنفال.
(4)
أخرجه بطوله مسلم فى (الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، 1/ 204، ح 224) من حديث ابن عمر. رضي الله عنه: (لا تقبل صلاة بغير طهور.) الحديث.
جريانه في الأودية، أو اجتماعه في الآبار والحياض، مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي: نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً. والأناسي: جمع أُنْسِيّ، ككرسي وكراسي. وقيل: جمع إنسان، وأصله: أناسين، وأبدلت النون ياءً، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي: هذا القول، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة، في القرآن وغيره من الكتب السماوية، أو: صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى. أو: صرفناه بينهم وابلاً، وطَلاًّ، ورذاذاً وديمة. وقيل: التصريف راجع إلى الريح. وقيل: إلى القرآن المتقدم في قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.. «1» ويعضده: وَجاهِدْهُمْ بِهِ «2» . وقوله: بَيْنَهُمْ أي: بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين، لِيَذَّكَّرُوا ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه، أو: ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ ممن سلف وخلف إِلَّا كُفُوراً أي: جحودا لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها، وربما نسبوها إلى غير خالقها، فيقولون: مُطرنا بنَوْء كذا.
وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ، فَأَما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فهو كافِرُ بِي، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ» «3» . فمن نسب الأمطار إلى الأنواء، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله، فقد كفر، ومن اعتقد أن الله خالقها، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق، فجعلها في سماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» «4» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: الكون كله، من جهة حسه الظاهر، ظل آفل، وضباب حائل، لا وجود له من ذاته، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات، من بحر المعاني الأزلية، كنسبة ظلال الأشجار في البحار، فظلال
(1) الآية 32 من هذه السورة.
(2)
الآية 52.
(3)
أخرجه البخاري فى (الاستسقاء، باب قول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ح 1038) ومسلم فى (الإيمان، باب كفر من قال: مطرنا بالنوء، 1/ 83، ح 125) ، عن زيد بن خالد الجهني.
(4)
ذكره بلفظه البغوي فى تفسيره (6/ 89) وعزاه لابن إسحاق، وابن جريج، ومقاتل، وبلغوا به ابن مسعود يرفعه. وأخرج الحاكم في المستدرك (التفسير 2/ 403)، عن ابن عباس: «ما من عام، أمطر من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء، وتلا هذه الآية. يعنى: قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي على شرط الشيخين. [.....]