الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: إنّا نحن نُحيي القلوب الميتة بالغفلة والجهل، فنحييها بالعلم والمعرفة، ونكتب ما قدّموا من العلوم، والأسرار والمعارف، وآثارهم، أي: الأنوار المتعدية إلى الغير، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم. قال القشيري: نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة، بما نُمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدموا وَآثارَهُمْ خطاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وما ترقرقَ من دموعهم على عَرَصات خدودهم، وتَصَاعُدَ أنفاسهم. هـ.
ثم ضرب مثلاً لقريش فى تكذيبهم، وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قلت: «اضرب» : يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و «مَثَلاً» : مفعول أول، وأَصْحابَ: مفعول ثان، أو: بمعنى «مثل» ، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و «أصحاب» : بدل من «مَثَلاً» ، و «إذ» :
بدل من «أصحاب» . و «أَئِن ذُكِّرتُم» : شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جل جلاله: وَاضْرِبْ لَهُمْ أي: لقريش مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي: واضرب لهم مثل أصحاب القرية «أنطاكية» أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، إِذْ جاءَهَا أي: حين جاءها الْمُرْسَلُونَ رُسل عيسى عليه السلام «1» ، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
إِذْ أَرْسَلْنا: بدل من «إذ» الأولى، أي: إذ بعثنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ، بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟
(1) هذا قول قتادة، أخرجه الطبري (22/ 155) والظاهر من (أرسلنا) أنهم أنبياء، أرسلهم الله، ويدلّ عليه: قول المرسل إليهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وهذه المحاورة لا تكون إلَاّ مع من أرسله الله، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح- عليه السلام. راجع تفسير ابن كثير (3/ 569) والبحر المحيط (7/ 313) .
فقالا: نشفي المريض، ونُبرىء الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض منذ سنين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك، وقال: ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا؟ فقالا: نعم، مَن أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتى أنظر في أمركما، فحبسهما.
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به. فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما؟ قال: لا، فدعاهما. فقال شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك. فقال: صِفاه وأوجزا، فقالا:
يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع. فقال: إِنْ قدر إلهاكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال: وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: مَن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا «1» . كما سيذكره بقوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ.
وهذا معنى قوله هنا: فَكَذَّبُوهُما أي: فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، فَعَزَّزْنا: قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف، من: عزّه: غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا بِثالِثٍ، وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغراض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. فَقالُوا أي: الثلاثة لأهلِ القرية: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من عند عيسى، الذي هو من عند الله. وقيل: كانوا أنبياء من عند الله- عز وجل أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي: ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: وحياً، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فيما تدعون من الرسالة. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، أكَّد الثاني باللام دون الأول لأن الأول مجرد إخبار،
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 11- 12) .