الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صارت مساوئه محاسن، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث:«إذا أحب اللهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذنب» «1» .
قال في القوت: واعلم أن مسامحة، الله عز وجل لأوليائه- يعني: في هفواتهم- في ثلاث مقامات: أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ، لِمَا سبق من قدم صدق، فلا تنقصه الذنوب لأنه حبيب. المقام الثاني: أن يقيمه مقام الحياء منه، بإجلال وتعظيم، فيسمح له، وتصغر ذنوبه للإجلال والمنزلة، ولا يمكن كشف هذا المقام، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر طائفة فقال: «يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم» . المقام الثالث: أن يقيمه مقام الحزن والانكسار، والاعتراف بالذنب والإكثار، فإذا نظر حزنه وهمه، ورأى اعترافه وغمه، غفر له حياء منه ورحمة. هـ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر توجه موسى إلى مدين، واتصاله بشعيب- عليهما السلام فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 24]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
يقول الحق جل جلاله: وَلَمَّا تَوَجَّهَ موسى تِلْقاءَ مَدْيَنَ نحوها وجهتها. ومدين: قرية شعيب، سُميت بمدين بن إبراهيم، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن، ويقال له أيضاً:«مدان بن إبراهيم» ، ولم تكن مدين في سلطان فرعون، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، ولعله إنما لم يتسلط عليها لِمَا وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم، فخاف على نفسه. قال ابن عباس: خرج موسى، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه.
قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي: وسطه ونهجه. فلما خرج، عَرَض له ثَلَاثُ طرق، فأخذ في أوسطها، وجاء الطلاب عَقِبَهُ، فأخذوا في الآخَرَيْنِ. رُوي أن مَلكاً جاءه على فرس بيده عَنَزَة، فانطلق به إلى
(1) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس 2/ 77 ح 4232) من حديث أنس. ولفظه: «التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذنب له، وإذا أحَبَّ اللهُ عَبْداً لَمْ يضره ذنب» وزاد الزبيدي عزوه فى إتحاف السادة المتقين (9/ 609) لابن النجار فى تاريخه.
مدين. ورُوي أنه خرج بلا زاد ولا درهم، ولا ظهر، ولا حِذاء- أي: نعل-، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فما بلغ مدين حتى وقع خُفُّ قَدَمِهِ، وخضرة البقل ترى على بطنه «1» .
وَلَمَّا وَرَدَ وصل ماءَ مَدْيَنَ بئراً لهم، وَجَدَ عَلَيْهِ على جانب البئر أُمَّةً جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين يَسْقُونَ مواشيهم، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ: تطردان غَنَمَهُمَا عن الماء، حتى تَصْدُرَ مواشي الناس ثم تسقيان لأن على الماء من هو أقوى منهما، فلا يتمكنان من السقي. أو: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود: الطرد والدفع.
قالَ لهما موسى: ما خَطْبُكُما: ما شأنكما لا تسقيان؟ والأصل: ما مخطوبكما، أي: مطلوبكما، فسمي المطلوب خَطْباً، قالَتا لا نَسْقِي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ، أي: يصرفوا مواشيهم، يقال: أصدر عن الماء وصدر، والمضارع: يَصْدُر ويَصْدِر، والرعاء: جمع راع، كقائم وقيام، والمعنى: لا نستطيع مزاحمة الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ السن، لا يمكنه سقي الأغنام، وهو شعيب بن نويْب بن مدين بن إبراهيم- عليهما السلام وقيل: هو «يثرون» بن أخي شعيب «2» ، وكان شعيب قد مات بعد ما كفَّ بَصَرُهُ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
فَسَقى لَهُما أي: فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة الملهوف، رُوي أنه نحى القوم عن رأس البئر، وسألهم دلواً، فأعطوه دلوهم، وقالوا: استق به، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها، وصبَها في الحوض، ودعا بالبركة. وقيل: كانت آبارهم مغطاة بحجارة كبار، فعمد إلى بئر، وكان حجرها لا يرفعه إلا جماعة، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله: أنه سألهما عن سبب الذود، فقالتا: السبب فى ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، ونستحي من الاختلاط بهم، فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا. وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية لأن الأمر في نفسه مباح مع حصول الأمن، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت: وقد كنت أعترض على أهل الجبل رَعْيَ النِّساءِ المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب، لكن السلامة في زماننا هذا حبس النساء في الديار لكثرة أهل الفساد.
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 383- 384) .
(2)
ذكره فى تفسيره (6/ 200) عن وهب بن منبه.