الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليكم، فالباء تتعلق بيصلون، أو: بنجعل لكما سلطاناً، أي: تسلطاً بآياتنا، أو: بمحذوف، أي: اذهبا بآياتنا، أو: هو بيان لغالبون، أي: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ، أي: المنصورون.
الإشارة: إذا اجتمع في زمانٍ نبيان، أو: وليان، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة، أو في السكر والصحو، فكان مُوسَى في غاية القوة، وأخوه في غاية الليونة، وكان موسى عليه السلام في أول الرسالة غالباً عليه الجذب، وأخوه غالباً عليه الصحو، فلذلك استعان به. قال الورتجبي: افهم أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق [وأسراره، بعبارة لا تكون بشيعة]«1» في موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال:«أن أفصح العرب» «2» ، و «بُعثتُ بجوامع الكلم» «3» . وهذه قدرة قادرية اتصف بها العارف المتمكن، الذي بلغ مشاهدة الخاص، ومخاطبة الخاص، وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان لأن كلامه، لو خرج على وزان حاله، يكون على نعوت الشطح، عظيماً في آذان الخلق، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة، التي كان مخصوصاً بها عن أخيه. هـ.
ثم ذكر عناد فرعون وتجبره، قال:
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 39]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)
يقول الحق جل جلاله: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا معجزاتنا التسع بَيِّناتٍ واضحات قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت، ثم تفتريه على الله، أو: سحر موصوف بالافتراء، كسائر أنواع
(1) عبارة الورتجبي [وأسراره بعباده لا يكون شفيعة] .
(2)
قال فى اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له. انظر: كشف الخفاء (1/ 232، ح 609) .
(3)
بعض حديث أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب قول النبي/ صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ح 2977) . [.....]
السحر، وليس بمعجزة من عند الله، وَما سَمِعْنا بِهذا، يعني: السحر، أو: ادعاء النبوة، فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، الجار: حال منصوبة بهذا، أي: ما سمعنا بهذا كائناً في آبائنا، أي: ما حُدِّثْنَا بكونه فيهم، ولا موجوداً في آبائهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، فيعلم أني محق، وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير:
«قال» بغير واو جواباً لمقالتهم. وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي: العاقبة المحمودة، فإن المراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأن الدنيا خلقت مَعْبراً ومجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها، بالذات، هو المجازاة على الأعمال فيها من الثواب الدائم، أو العقاب الأليم، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا، وحسن العاقبة في العقبى.
قال النسفي: قل ربي أعلم منكم بحال من أَهَّلَهُ الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً، وبعثه بالهدى، ووعده حُسْنَ العُقْبَى، يعني نفسه، ولو كان كما تزعمون، ساحراً، مفترياً، لما أَهَّلَهُ لذلك لأنه غني حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا ينبّئ الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ «1» . والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها: أن تختم للعبد بالرحمة والرضوان، ويلقى الملائكة بالبشرى والغفران. هـ.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، قصد بنفي علمه بإله غيره نَفِيَ وُجُودِهِ، أي:
مالكم إله غيري. قاله تجبراً ومكابرة، وإلا فهو مقر بالربوبية لقوله تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «2» ، ورُوي أنه كان إذا جن الليل، لبس المسوح وتمرغ في الرماد.
وقال: يا رب إني كذاب فلا تفضحني «3» .
ثم أَمَرَ ببنيان الصرح زيادة في الطغيان، بقوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي: اطبخ لي الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين: آجرّ لأنه أول من عمله، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي: قصراً عالياً، لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي: أصعد. فالطلوع والاطلاع: الصعود، إِلى إِلهِ مُوسى، حسب
(1) من الآية 22 من سورة الرعد.
(2)
من الآية 102 من سورة الإسراء.
(3)
هذا رواية باطلة، فأولا: لا سند لها، فهى لا تصح، وثانيا: لأنها تناقض سلوك فرعون إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ومِنَ الْمُفْسِدِينَ وطبع الله على قلبه وانظر إلى السطر التالي من كلام الشيخ ابن عجيبة رحمه الله.
الجاهل أنه في مكان مخصوص، كما كان هو في مكان، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي: موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في دعواه أن له إلهاً، وأنه أرسله إلينا رسولاً.
وهذا تناقض من المخذول، فإنه قال أولاً: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلهاً، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصا موسى فلبّس وقال: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى. رُوِي أنه لما أُمر وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامانُ العمال، خمسين ألف بنّاء، سوى الأتباع والأُجراء- فبنوا، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط، منذ خلق الله السموات والأرض. أراد الله أن يفتنهم فيه، فصعده فرعون وقومه، ورموا بُنُشّابة نحو السماء، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم، فقال: قد قتلنا إله السماء، فضرب جبريل الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون، فقتلت ألفَ ألفِ رجل، وقطعة على البحر، وقطعة في الغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك «1» . هـ.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ تعاظم فِي الْأَرْضِ أرض موسى بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق، بل بالباطل، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى، وهو المتكبر المتعالي، المبالغ في كبرياء الشأن، كما في الحديث القدسي:
«الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته» «2» ، أو: ألقيته في النار، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: بالبناء للفاعل. والباقي: للمفعول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها، من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء أنف، وقال: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل: للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى.
وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت قال تعالى:(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى) ، ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر:
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 208- 209) . وقال القرطبي (6/ 5149) : والله أعلم بصحة ذلك.
(2)
أخرجه أبو داود فى (اللباس، باب ما جاء فى الكبر، 4/ 350، ح 4090) وابن ماجه فى (الزهد، باب البراءة من الكبر، 2/ 1397، ح 4174) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، بلفظ:«ألقيته فى النار» وأخرجه مسلم- من حديث أبي سعيد الخدري، وأبى هريرة فى (البر والصلة، باب تحريم الكبر، 4/ 2023، ح 2620) بلفظ: «العز إزاره، والكبرياء رداؤه- فمن ينازعنى عذبته» .