الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما جزعها وحيرتها فذلك من الطبع البشري الجِبِلِّيِّ، اللازم لضعف البشرية، لا ينجو منه إلا خواص الخواص، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار في اليوم، كما قال السدي: لأنه مال حربي، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي: القبط، أو الناس جملة، لا يَعْلَمُونَ أن ما وعد الله لا بد من إنجازه، ولو بعد حين، وهو داخل تحت علمها، أي: لتعلم إن وعد الله حقٌ، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون، فجزعت، وهذا من الطبع البشري كما تقدم.
وأيضاً يجوز أن يكون الوعد منوطاً بشروط وأسباب، قد لا تعرفها، فلذلك لم ينفك خوفها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وحرمنا على الإنسان المراضع، من لبان الخمرة الأزلية، من قبل أن نلقيه بأهلها، فقالت له العناية السابقة: هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية، والهفوات القلبية، وهي الإصرار على المساوئ والذنوب، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون، يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره. فإن مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومن دلّك على الدنيا فقد غشك.
فرددناه إلى أمه، وهي الحضرة القدسية، التي خرج منها، بمتابعة شهوته وغفلته، كي تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها، ولا تحزن على فوات شيء، إذ لَم تفقد شيئاً، حيث وجدت الله تعالى «ماذا فقد مَن وجدك؟ وما الذي وجد من فَقَدَكَ؟» «1» ولتعلم إن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون.
ثم ذكر سبب خروج موسى من مصر، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قلت: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ: حال، أي: دخل مخفياً.
يقول الحق جل جلاله: وَلَمَّا بَلَغَ موسى أَشُدَّهُ أي: نهاية القوة وتمام العقل، جمع شِدَّةٍ كنعمة وأنعم. وأول ما قيل في الأشد: بلوغ النكاح، وذلك أولُه، وأقصاه: أربع وثلاثون سنة. وَاسْتَوى أي: اعتدل
(1) من مناجاة سيدى ابن عطاء الله السكنندرى. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي/ ص 42.
عقله وقوته، وهو أربعون سنة، ويُروى أنه لم يُبعث نبيّ إلا على رأس أربعين سنة. آتَيْناهُ حُكْماً: نبوة، أو:
حكمة وَعِلْماً: فقهاً في الدين، أو: علماً بمصالح الدارين. والحاصل: لما تكامل عقله وبصيرته آتيناهُ حُكْماً على عبادنا وعلماً بنا. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما فعلنا بموسى وأمه لمّا استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله، فرددنا لها ولدها، ووهبنا له الحكمة والنبوة، فكذلك نجزي المحسنين في كل أوان وحين.
قال الزجاج: جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة، التي هي جزاء المحسنين، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه لأنه تعالى قال: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «1» ، فجعلهم جهالاً، إذ لم يعملوا بالعلم. هـ.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي: مصر، آتياً من قصر، فرعون، وكان خارجاً، وقال السُّدِّي: مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: قرية «حابين» ، على فرسخين من مصر. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها، وهو ما بين العشاءين، أو: وقت القائلة، يعني: انتصاف النهار. قال السدي: لما كبر موسى ركب مراكب فرعون، ولبس ملابسَهُ، فكان يدعى موسى بن فرعون، فركب فرعونُ يوماً وركب موسى خلفه، فأدركه المقيل بقرب مدينة منف، فدخلها نصف النهار، وقد غلقت أسواقها، وليس في طرقها أحد، فوجد موسى رجلين.. إلخ.
قال ابن إسحاق: كان يجتمع إلى موسى طائفة من بني إسرائيل ويقتدون به، فرأى مفارقة فرعون، وتكلم في ذلك حتى ظهر أمره، فأخافوه، فكان لا يدخل قرية إلا مستخفياً، فدخلها على حين غفلة. وقيل: إن موسى لما شبّ علا فرعون بالعصى، فقال: هذا عدو لي، فأخرجه من مصر، ولم يدخل عليهم إلى أن كبر وبلغ أشده، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بخبر موسى، أي: من بعد نسيانهم خبره «2» ، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ يتضاربان، هذا مِنْ شِيعَتِهِ ممن على دينه من بني إسرائيل، وقيل: هو السامري. وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه من القبط، وهو طباخ فرعون. واسمه:«فليثور» ، وقيل فيهما:«هذا وهذا» ، وإن كانا غائبين على جهة الحكاية، أي: إذا نظر إليهما الناظر قال: هذا وهذا.
وقال ابن عباس: لَمَّا بلغ موسى أشده كان يحمي بني إسرائيل من الظلم والسخرة، فبينما هو يمشي نظر رجلين يقتتلان، أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل.
(1) من الآية 102 من سورة البقرة.
(2)
أخرج هذه الأقوال الطبري فى تفسيره (20/ 43- 44) .
فَاسْتَغاثَهُ فاستنصره الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ أي: فسأله أن يغيثه الإعانة. ضمَّن استغاث أعان، فعداه ب «على» . رُوي أنه لما استغاث به، غضب موسى، وقال للفرعوني: خله عنك؟ فقال: إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، ثم قال الفرعون لموسى: لقد هممت أن أحمله عليك، فَوَكَزَهُ مُوسى ضربه بِجُمْع كفه، أو: بأطراف أصابعه. قال الفراء الوَكز: الدفع بأطراف الأصابع. فَقَضى عَلَيْهِ أي: قتله، ولم يتعمد قتله، وكان موسى عليه السلام ذا قوة وبطش، وإنما فعل ذلك الوكز لأن إغاثة المظلوم والدفع عنه دِين في الملل كلها، وفرض في جميع الشرائع. وإنما عدَّه ذنباً لأن الأنبياء لا يكفي في حقهم الإذن العام، فلذلك قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: القتل الحاصل، بغير قصد، من عمل الشيطان، واستغفر، وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان، وسماه ظلماً لنفسه، واستغفر منه لأنه كان مستأمناً فيهم، أو: لأنه قتله قبل أن يُؤذن له في القتل.
وعن ابن جريح: ليس لنبي أن يقتل ما لم يُؤمر، ولأن الخصوص يٌعظمون محقرات ما فرط منهم. إِنَّهُ أي:
الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
قالَ رَبِّ أي: يا رب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بفعل صار قتلاً فَاغْفِرْ لِي زلتي، فَغَفَرَ لَهُ زلته، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ بإقالة الزلل، الرَّحِيمُ بإزالة الخجل، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي: بحق إنعامك عليّ بالمغفرة ولم تعاقبني فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي: لا تجعلني أُعين على خطيئةَ، تَوَسل للعصمة بإنعامه عليه. وقيل: إنه قسم حُذف جوابه، أي: أُقْسِمُ بإنعامك عليَّ بالمغفرة، إن عصمتني، فلن أكون ظهيراً للمجرمين، وأراد بمظاهرة المجرمين صُحْبَةَ فرعون، وانتظامَهُ في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب معه كالولد مع الوالد.
قال ابن عطية: واحتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور، ومَعُونتهم في شيء من أمورهم، ورأوا أنها تتناول ذلك. هـ. قال الْوُصَافِي لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخاً يأخذ بقلمه، وإنما يكتب ما يدخل ويخرج، وله عيال، ولو ترك لاحتاج وَادّانَ. فقال: من الرأس؟ فقال: خالد بن عبد الله، قال: أما تقرأ قول العبد الصالح: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ، فإن الله عز وجل سيعينه. هـ.
الإشارة: خصوصية الولاية كخصوصية النبوة، لا تُعطى، غَالِباً، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل، وحصول الاستواء، وهو أن يستوي عنده المدح والذم، والعز والذل، والمنع والعطاء، والفقر والغنى، وتستوي حاله في القبض والبسط، والغضب والرضا، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً، وجزاه جزاء المحسنين، وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته: أمَّا بعد، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك، وتوسعت في أخلاقك، حتى