الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، فلذلك قال تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ، أي: بالله وصفاته وأسمائه، وبمواقع كلامه وحِكَمه، أي:
لا يعقل صحتها وحُسنها، ولا يفهم حكمتها، إلا هم لأن الأمثال والتشْبيهات إنما هي طرق إلى المعاني المستورة، حتى يبرزها ويصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، وقال:«العالِم: مَنْ عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» «1» ، وَدَلَّتْ هذه الآية على فضل العلم وأهله.
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: محقاً، لم يخلقها عبثاً، كما لم يضرب الأمثال عبثاً، بل خلقها لحكمة، وهي أن تكون مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته، بدليل قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم هم المنتفعون بها. وقيل: بالحق: العدل، وقيل: بكلامه وقدرته، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء. وخص السموات والأرض لأنها المشهودات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو مال بالمحبة إلى شيء سواه، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت، فعن قريب يذهب ويفوت، يا من تعلق بمن يموت قد تَمَسَّكَتَ بأضعف من خيط العنكبوت.
تنبيه: الأشياء الحسية جعل الله فيها القوي والضعيف، والعزيز والذليل، والفقير والغني لِحكمة، وأما أسرار المعاني القائمة بها فكلها قوية عزيزة غنية، فالأشياء، بهذا الإعتبار- أعني: النظر لحسها ومعناها- كلها قوية في ضعفها، عزيزة في ذلها، غنية في فقرها. ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شىء أقوى شيء، وينصر بأذل شيء على أقوى شيء. رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ شكى العنكبوتُ إلى الله تعالى، وقال: ربِّ خلقتني ضعيفاً، ووصفتني بالإهانة والضعف، فأوحى الله تعالى إليه: انكسر قلبك من قولنا، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش، وأغنينا محمداً عن كل ركن كثيف، فقال: يا رب حسبي أن خلقت في ذلي عزتي، وفي إهانتي قوتي. هـ. ذكره في اللباب.
ثم أمره بالاشتغال بالتلاوة والصلاة تسلية وغيبة عمن آذاه، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
(1) قال المناوى فى الفتح السماوي (2/ 896) : «رواه داود بن المحبر فى كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده، والثعلبي، والواحدي، والبغوي- فى التفسير (6/ 243) - من حديث جابر. وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات، وكتاب العقل، لداود، كله موضوع، وانظر أيضا: تنزيه الشريعة، لابن عراق (1/ 214) .
يقول الحق جل جلاله: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ تَنَعُّماً بشهود أسرار معانيه، وبشهود المتكلم به، فتغيب عن كل ما سواه، واستكشافاً لحقائقه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وقد كان من السلف من يبقى في السورة يكررها أياماً، وفي الآية يرددها ليلة وأكثر، كلما رددها ظهر له معان أُخر.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي: دم على إقامتها، بإتقانها فعلاً وحضوراً وخشوعاً، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الفعلة القبيحة كالزنى، والشرب، ونحوهما، وَالْمُنْكَرِ، وهو ما يُنكره الشرع والعقل. ولا شك أن الصلاة، إذا صحبها الخشوع والهيبة في الباطن، والإتقان في الظاهر، نهت صاحبها عن المنكر، لا محالة، وإلا فلا.
رُوي أن فتًى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات، ولا يَدَعُ شيئاً من الفواحش إلا ركبه، فَوُصِفَ حَالُهُ له صلى الله عليه وسلم فقال:«إن صلاته تنهاه» ، فلم يلبث أن تاب. هـ «1» .
وأما من كان يصليها فلم تنهه فهو دليل عدم قبولها، ففي الحديث:«من لمْ تَنْهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً» «2» رواه الطبراني. وقال الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة، وهي وبال عليه. وقال ابن عوف: إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. هـ. فخص النهى بكونه مادام فيها، وعليه حَمَلَهُ المَحلِّي.
قال المحشي: يعني: أن مِنْ شأنها ذلك، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة، كما أن من شأن الإيمان التوكل، وإن قدر أن أحداً من المؤمنين لا يتوكل فلا يخرج ذلك عن الإيمان. وقيل: الصلاة الحقيقة: ما تكون لصاحبها ناهيةً عن ذلك، وإن لم ينته فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى: ورود الزواجر على قلبه، ولكنه أصر ولم يطع. [ويقال: بل الصلاة الحقيقة ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإن كان] «3» ، وإلا فصورة الصلاة، لا حقيقتها. انظر القشيري.
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص 128) : «لم أجده» ، وأخرج الإمام أحمد فى المسند (2/ 447)، والبزار (كشف الأستار 1/ 346) عن أبى هريرة: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلى بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال:«إن صلاته ستنهاه» .
(2)
أخرجه الطبري فى التفسير (20/ 155) عن ابن عباس وابن مسعود موقوفا، وعزاه فى الدر المنثور (5/ 279) للطبرانى، وابنُ أبي حاتم، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر: الكافي الشاف (ص 127) .
(3)
المثبت بين المعكوفتين من لطائف الإشارات للقشيرى (3/ 99) . وهو ضرورى.
وقال ابن عطية: إذا وقعت على ما ينبغي من الخشوع، والإخبات لذكر عظمة الله، والوقوف بين يديه، انتهى عن الفحشاء والمنكر، وأما مَنْ كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان. هـ.
فائدة: ذكر في اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السلام، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط، فلما نزل، وجنَّه الليل خرّ مغشياً، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين، شكراً. وأول من صلى الظهر إبراهيم، لما فدى ولده، وقد كان نزل به أربعة أهوال، هم الذبح، وهم الولد، وهم والدته، وهم مرضاة الرب، فصلى أربع ركعات شكراً لله تعالى.
وأول من صلى العصر سليمان عليه السلام، لمَّا رد الله عليه ملكه. وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة. وأول من صلى العشاء يونس عليه السلام، ولعله هذا الوقت الذي نُبذ فيه بالعراء. وأول من توضأ آدم كفارة لأكله. هـ. مختصراً بزيادة بيان. وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية لتحوز فضائل تلك الشرائع لأنه صلى الله عليه وسلم جَامِعٌ لِمَا افْتَرَقَ في غيره.
ثم قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، أي: ولذكر الله، على الدوام، أكبر، فى النهى عن الفحشاء والمنكر، من الصلاة لأنها في بعض الأوقات. فالجزء الذي في الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة، وهو أعظم، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكرٍ لله، مراقبٍ له، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى لقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» . ومن ذَكَرَه حَفِظَهُ ورعاه. أو: لذكر الله أكبر أجراً، من الصلاة، ومن سائر الطاعات، كما في الحديث:«ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكمْ، وأزكْاهَا عند مليككم، وأرفَعِهَا في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عدوكم فتضربُوا أعناقهم ويضربوا اعناقكمْ؟ قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذِكْرُ الله» «2» . وسئل: أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال: «أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله» «3» .
قيل: المراد بذكر الله هو الصلاة نفسها، أي: وَللصلواتُ أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبّر عنها بذكر الله ليشعر بالتعليل، كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله. وعن ابن عباس: ولذكر الله لكم إياكم، برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم يفنى. أو: لذكر الله أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم. أو: ذكر الله أكبر
(1) الآية 152 من سورة البقرة.
(2)
أخرجه الترمذي فى (الدعوات، باب 6، 5/ 428، ح 3377) ، وابن ماجة فى (الأدب، باب فضل الذك، 2/ 1245، ح 3790) ، والبيهقي فى الشعب (519) ، والحاكم وصححه فى المستدرك (1/ 496) ، وصححه ووافقه الذهبي، من حديث أبى الدرداء.
(3)
رواه ابن حبان فى صحيحه (815) ، والبراز (كشف الأستار ح 3059) ، من حديث معاذ بن جبل، وقال الهيثمي فى المجمع:
(10/ 74) : وإسناده حسن. [.....]
من أن تبقى معه معصية. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلِّقَيْنِ بالجوارح الظاهرة، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر المتعلقين بالعوالم الباطنة، وهي المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب، فإذا أكثر العبد من ذكر الله، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل، تنور قلبه، وتطهر سره ولُبه، فاتصف بأوصاف الكمال، وزالت عنه جميع العلل، ولذلك جعلته الصوفية معتمدا أعمالِهِمْ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير، بل قاموا فيه بالجد والتشمير، فيذكرون أولاً بلسانهم وقلوبهم، ثم بقلوبهم فقط، ثم بأرواحهم وأسرارهم، فيغيبون حينئذٍ في شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان، ويصير العبد محواً في وجود العيان، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة، وشهوداً ونظرة، وهو مقام العيان في منزل الإحسان، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة «1» ، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ هَمَّ يَلْعَنُني
…
سرِّي وقَلْبِي وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ
حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي:
…
إِيَّاكَ، وَيْحَك، والتَّذْكَارَ، إِيَّاكَ
أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لَاحَتْ شَوَاهِدُهُ؟
…
وَوَاصَلَ الْكُلَّ، مِنْ مَعْنَاهُ، مَعْنَاكَ؟!
قال القشيري: ويقال: ذكر الله أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد، فضلاً أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان. هـ. وقال في القوت على هذه الآية: الذكر عند الذاكرين: المشاهدة، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة. هذا أحد الوجهين في الآية. ثم قال: ورُوي في معنى الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله- عز وجل» قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2» ، أي: لتذكرني فيها. ثم قال: فإذا لم يكن في قلبك للمذكور، الذي هو المقصود والمُبْتغى، عظمة ولا هيبة، ولا إجلالُ مقامٍ، ولا حلاوة فهْم، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة قسماً من اقسام الدنيا، إذا كان المصلي على مقام من الهوى، فقال: «حُبب إلىّ من
(1) لا يكون ذكر اللسان بطالة. والنبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله..» والله عز وجل يقول: «أنا مع عبدى المؤمن ما ذكرنى وتحركت بي شفتاه» فكيف يكون هذا بطالة!! مع تحقق السر بالذكر؟.
(2)
من الآية 14 من سورة طه.