الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك، وهي جنة المعارف المعجلة، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها، ثم ترحل عنها، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان، وهو العكوف في حضرة الإحسان. بل كذَّبوا بالساعة، أي: من تنكب عن هذا الخير الجسيم، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة من الانهماك في الدنيا، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً، أي: إحراقاً للقلب بالتعب، والحرص، والجزع، والهلع، والإقبال على الدنيا، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً غيظاً على طلابها، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها، وإذا ألقوا في أشغالها، وضاق عليهم الزمان فى إدراكها، دعَوا بالويل والثبور، وذلك عند معاينة أعلام الموت، والرحيل إلى القبور، ولا ينفعهم ذلك. قل: أذلك خير أم جنة الخلد؟، وهي جنة المعارف، التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله، كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله، كان على ربك وعدا مسئولا، أي: مطلوباً للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.
ثم شرح ما يلقى أهل التكذيب من الهول والفظاعة، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
قلت: «اتخذ» قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً «1» ، وقد يتعدى إلى مفعولين، كقوله:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «2» ، فقرأ الجمهور:(أن نَتَّخِذَ) بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول «3» . فالقراءة الأولى على تعديته لواحد، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول: الضمير في (نتخذ)، والثاني:(من أولياء) . و (من) : للتبعيض، أي: ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك لأن «من» لا تزاد في المفعول الثاني، بل في الأول، تقول: ما اتخذت من أحد وليّاً، ولا تقول: ما اتخذت أحداً من ولي. وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره، وهو محجوج لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر.
(1) من الآية 8 من سورة الأنبياء
(2)
من الآية 125 من سورة النساء.
(3)
أي: (نتّخذ) بضم النون وفتح الخاء.
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ «1» ، أو: يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة، فيحشرهم وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام يُنطقها الله، وقيل: عام في الجميع. و (ما) : يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبودهم. فَيَقُولُ الحق جل جلاله للمعبودين، إثر حشر الكل تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي: عن السبيل بأنفسهم بإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن الرشد.
وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل: أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل لأن السؤال ليس عن نفس الفعل، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له، فلابد من ذكره، وإيلائه حرف الاستفهام. ليعلم أنه المسئول عنه. وفائدة سؤالهم، مع علمه تعالى بالمسئول عنه لأن يجيبوا بما أجابوا به حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فتزيد حسرتهم.
قالُوا في الجواب: سُبْحانَكَ تعجيباً مما قيل، لأنهم إما ملائكة معصومون، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء، أو: قصدوا به تنزيه عن الأنداد، ثم قالوا: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أي: ما صح وما استقام لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أي: متجاوزين إياك، مِنْ أَوْلِياءَ نعبدهم لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك، فضلاً أن يتخذونا أولياء، أو: ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ بالأموال والأولاد وطول العمر، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي:
غفلوا عن ذكرك، وعن الإيمان بك، واتباع شرائعك، فجعلوا أسباب الهداية من النعم والعوافي، ذريعة إلى الغواية. وَكانُوا، في قضائك وعلمك الأزلي، قَوْماً بُوراً هالكين، جمع: بائر، كعائذ وعُوذ.
ثم يقال للكفار بطريق الالتفات: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ، وهو احتجاج منَّ الله تعالى على العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب، أي: فقال الله جل جلاله عند ذلك للعبدة: فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، بِما تَقُولُونَ أي: في قولكم: هؤلاء أضلونا. والباء بمعنى «في» ، وعن قنبل:
بالياء، والمعنى: فقد كذبوكم بقولهم: (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ ينبغي لنآ أن نتخذ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ)، والباء حينئذٍ كقولك: كتبت بالقلم.
(1) قرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب وحفص: «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون بالنون.. انظر الإتحاف (2/ 306) .