الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من كل جانب، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف. وإذ زاغت الأبصار: مالت عن قصدها بالاهتمام بالرجوع، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين، وتظنون بالله الظنونا، فمنهم مَن يظن الامتكان بعد الامتحان، فيفرحون بالبلاء، ومنهم مَن يظن أنه عقوبة
…
إلى غير ذلك، هنالك ابتلي المؤمنون المتوجهون ليظهر الصادق، في الطلب، من الكاذب فيه، فعند الامتحان يعز المرء أو يُهان، ويظهر الخَوّافون من الشجعان، وزُلزلوا زلزالاً شديداً ليتخلصوا ويتمحصوا، كما يتخلص الذهب والفضة من النحاس، ومَن عرف ما قصد هان عليه ما ترك.
قال القشيري: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.. يعني: بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
…
الآية: كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو- سبحانه- يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صدره!. هـ.
ثم ذكر سبحانه نتيجة الابتلاء، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 14]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَاّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَاّ يَسِيراً (14)
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: عطف تفسير إذ هو وصف المنافقين، كقول الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ، وابنِ الهُمَامِ
…
ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
فابن الهمام هو القَرْمُ، والقرم- بالراء-: السيد. وقيل: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، هم الذين لا بصيرة بهم في الدين من المسلمين، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشُّبه عليهم، قالوا، عند شدة الخوف: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً.
رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ، المنافق، حين رأى الأحزاب قال: إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز، خوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. هـ.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من المنافقين، وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه: يا أَهْلَ يَثْرِبَ، وهم أهل المدينة، لا مُقامَ لَكُمْ «1» أي: لا قرار لكم هنا، ولا مكان تقيمون فيه- وقرأ حفص: بضم الميم- اسم مكان، أو مصدر، فَارْجِعُوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاربين، أو: إلى الكفر، فيمكنكم المقام بها، أو:
لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي: بنو حارثة، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ: ذات عورة، أي: خالية غير حصينة، وهي مما يلي العدو. وأصلها:
الخلل. وقرأ ابن عباس بكسر الواو: (عَوِرَة)، يعني: قصيرة الجدران، فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة، وعَوِرَ المكان: إذا بَدا فيه خلل يُخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عَوْرَة: تخفيفَ عَوِرة.
اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله تعالى بقوله: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، بل هي حصينة، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتل.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مدينتهم، أو: بيوتهم. من قولك: دخلت على فلان داره. مِنْ أَقْطارِها من جوانبها، أي: ولو دَخلت هذه العساكر المتحزبة- التي يفرَّون خوفاً منها- مدينتَهم، أو بيوتهم، من نواحيها كلها ناهبين سارقين، ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع، الْفِتْنَةَ أي: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، أو: القتال في العصبية، وهو أحسن لأنهم مسلمون، لَآتَوْها «2» لجاءوها وفعلوا. ومَن قرأ بالمد فمعناه: لأعطوها من أنفسهم، وَما تَلَبَّثُوا بِها بإجابتها وإعطائها، أي: ما احتبسوا عنها إِلَّا يَسِيراً، أو:
ما لبثوا بالمدينة، بعد ارتدادهم، إلا زماناً يسيراً، ثم يهلكهم الله لأن المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم ليفرُّوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رُعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو سألوهم أن يقاتلوا فتنة وعصبية لأجابوهم، وما تعلّلوا بشيء، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، والعياذ بالله.
الإشارة: وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء: لا مقام تقفون معه إذ قد قطعتم المقامات، حين تحققتم بمقام الفناء، فارجعوا إلى البقاء لتقوموا بآداب العبودية، وتنزلون في المقامات ثم ترحلون عنها، كما
(1) أثبت المفسر- رحمة الله- قراءة (مقام) بفتح الميم، وهى قراءة الجمهور. وقرأ حفص (مقام) بضم الميم. انظر: الحجة للفارسى (5/ 471) .
(2)
قرأ نافع وابن كثير: (لأتوها) بالقصر، وقرأ الباقون: بالمد.. انظر: الإتحاف (2/ 372) .