الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب قطب العارفين: الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعا، وهى أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ.. الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.
ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قلت: (سرمداً) : مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي: التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه: فعْمَل.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائماً بإسكان الشمس تحت الأرض، أو: بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، وحقه: هل إله غير الله، وعبّر ب «مَن» على زعمهم أن غيره آلهة، أي: هل يقدر أحد على هذا؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء، أو: بتحريكها فوق الأفق فقط، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال؟ ولم يقل: بنهار
تتصرفون فيه، كما قال: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، بل ذكر الضياء، وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، وليس هو التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس هو بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء.
أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون معناه: لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: ولكي تعرفوا نعمة الله فى ذلك فتشركوه عليها.
ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وكرر التوبيخ على الشرك ليؤذن ألَاّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي: أعاد هذا لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «1» ، ويحتمل: ولا يكلمهم بعد قوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «2» أو: ولا يكلمهم كلام رضا. هـ «3» .
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه لأن الأنبياء شهداء على أممهم، فَقُلْنا للأمم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، فَعَلِمُوا حينئذٍ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهر البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم:«بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه» . وقال فارس رضي الله عنه: القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط يقعان في الوجود، وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
(1) من الآية 174 من سورة البقرة.
(2)
من الآية 108 من سورة المؤمنون.
(3)
بتصرف.