الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء ملجأون إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات، فلم يؤمنوا فأُهلِكوا، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بأن دمرهم بلا سبب، أو: من غير إعذار، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا بالكفر والمعاصي السُّواى أي: العقوبة السوأى، والأصل: ثم كان عاقبتهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، وهو إساءتهم. والمعنى:
أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كان عاقبتهم في الآخرة العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وهى النار التي أُعدت للكافرين. لأجل أَنْ كَذَّبُوا أو: بأن كذَّبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على صدق رسله، أو: على وحدانيته.
وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ حيث قابلوها بالتكذيب، أو: غفلوا عن التفكر فيها. أو: ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السّوآء أن طبع اللهُ على قلوبهم، حتى كذّبوا بالآيات، واستهزءوا بها. أو: ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى، وهو أن كذّبوا واستهزءوا، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة، فخبر كان، على هذا: محذوف للتهويل.
و (أن كذبوا) : بيان، أو: بدل من السوأى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السير إلى الله على أقسام: سَيْرُ النفوس: بإقامة عبادة الجوارح لطلب الأجور، وسَيْرُ القلوب:
بجَولَانها في ميادين الأغيار، للتبصر والاعتبار طلباً للحضور، وسير الأرواح: بجولان الفكرة في ميادين الأنوار طلباً لرفع الستور ودوام الحضور، وسير الأسرار: الترقي في أسرار الجبروت، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام. قال القشيري: سَيْرُ النفوس في أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوب بجَوَلَان الفكْر في جميع المخلوقات، وغايته: الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي تُوجبُ ثلج الصدور- ثم تلك العلوم على درجات- وسَيْرُ الأرواح في ميادين الغيب: بِنَعْتِ خَرْقِ سُرَادِقَات الملكوت. وقُصَاراه: الوصولُ إلى ساحل الشهود، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسَيْرُ الأسرار: بالترقي- أي: الغيبة- عن الحِدْثان بأَسْرها، والتحقق، أولاً، بالصفات، ثم بالخمود، بالكلية، عمَّا سوى الحق. هـ.
وقال في قوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى: من زَرَعَ الشوكَ لم يحصدُ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيش لم يقطف البهار، ومَنْ سَلَكَ سبيل الغيّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد. هـ.
ثم ذكر شأن البعث الذي هو عاقبة المسيء والمحسن: فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
يقول الحق جل جلاله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم، ثُمَّ يُعِيدُهُ يحييهم بعد الموت، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح:
بالغيب، على الأصل. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ: ييأس ويتحير الْمُجْرِمُونَ المشركون يُقال: ناظرته فأبلس، أي: أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة، أو: يسكتون متحيرين، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ التي عبدوها من دون الله شُفَعاءُ يشفعون لهم ويجيرونهم من النار، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ جاحدين لها، متبرئين من عبادتها، حين أيسوا من نفعها. أو: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي: المسلمون والكافرون، بدليل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ، أي: بستان ذي أزهار وأنهار، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه، يُحْبَرُونَ: يُسرّون، يقال: حبره، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة، فقيل: يُكرمون، وقيل: يُحلّون. وقيل: هو السماع في الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء: كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان فقيل: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال:
«نعم، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنّة.» قال الراوي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله «1» .
والخمصانة: المرهفة الأعلى، الضخمة الأسفل. هـ. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ:
مقيمون، لا يغيبون عنه. عائذاً بالله من غضبه.
(1) ذكره القرطبي فى التفسير (6/ 5243) ، وعزاه للثعلبى، من حديث أبى الدرداء، وأخرجه، بنحوه، البيهقي فى البعث والنشور (425) من حديث أبى هريرة موقوفا.