الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله، فيشتغل بمولاه، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان، فيكِلُ أمره إلى الله، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه: التفويض، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه، ولا يختار حالاً على حال، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ، فهي رتبة الرضا، ويحصل له في هذه الحالة، من فوائد الرضا ومطالعته، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا: الموافقة وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا- ويعدُّون ذلك حجاباً- كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود، والاستهلاك، والوجود، والاصطلام، والفناء، - وهذا هو عين التوحيد الخاص- فعند ذلك لا أنس، ولا هيبة، ولا لذة، ولا راحة، ولا وحشة، ولا آفة. يعنى: تغيب المقامات بلذاتها وراحتها، عند تحقق الفناء، ثم قال: هذا بيان ترتيبهم، فأمّا ما دون ذلك فالإخبار عن أحوال المتوكلين، على تباين شرفهم، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضاً: ويقال: التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته: فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء، فالواجب، في الأسباب الدنيوية، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم، والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله، فهو متمن معلول الحال، ممكورٌ مُسْتَدْرَج، بل يجب أن يبذل جهدَه، ويستفرغ وسعَه، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب فإن ذلك- إذا حَصَلَ- فالوقت غالبٌ، وهو أحد ما قيل في قولهم: الوقت سيف. هـ.
ثم ذكر من أوصاف الرحمن، الذي نفر المشركون عن الخضوع له، ما يبين عظمته وكبرياءه، ونفوذ قدرته المستوجبة للخضوع والانقياد له ردا على امتناع الكفرة منه، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
يقول الحق جل جلاله: تَبارَكَ أي: تعاظم الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وهي البروج الاثنا عشر:
الحَمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.
وهي منازل الكواكب السبعة السيارة، لكل كوكب بيتان، يقوي حاله فيهما، وللشمس بيت، وللقمر بيت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زُحل. وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها، لهذه الكواكب، كالمنازل الرفيعة لسكانها. واعتبر بزيادة البحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه، فإن بيت القمر- وهو السرطان- مائي، وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع. وتذكر:«وبالاسم الذي وضعته على الليل فَأَظْلَمَ..» إلخ. قاله في الحاشية.
واشتقاق البروج من التبرج، الذي هو الظهور لظهورها، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد: البروج: النجوم الكبار لظُهورها.
وَجَعَلَ فِيها سِراجاً أي: الشمس، لقوله تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «1» . وقرأ الأَخَوَان: «سُرُجاً» .
ويراد: النجوم الكبار والشمس، وَقَمَراً مُنِيراً أي: مضيئاً بالليل.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي: ذو خلفة يخلف كل واحد منهما الآخر، بأن يقوم مقامه، فيما ينبغي أن يعمل فيه، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال قتادة: فأروا الله تعالى من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فاتتني الصلاةُ الليلةَ، فقال: أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك، فَإنّ الله تعالى جَعَل الليل والنهار خلفة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. هـ «2» . أي: يتذكر آلاء الله- عز وجل، ويتفكر في بدائع صنعه، [فيعلم] «3» أنه لا بد له من صانع حكيم. وقرأ حمزة وخلف:«يَذْكُرَ» أي: يذكر الله في قضاء ما فاته في أحدهما، أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي: شكر نعمة ربه عليه فيهما، فيجتهد في عمارتها بالطاعة شكراً. وبالله التوفيق.
الإشارة: تبارك الذي جعل في سماء القلوب أو الأرواح بروجاً منازل ينزلها السائر، ثم يرحل عنها، وهي مقامات اليقين كالخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضا، والتسليم، والمحبة، والمراقبة،
(1) الآية 16 من سورة نوح. [.....]
(2)
أخرج الطبري (19/ 30) عن شقيق.
(3)
فى الأصول: [فيهم] . والمثبت: من تفسير البيضاوي وأبي السعود.