الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله: إِنَّهُمْ أي: المشركين كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، هو أعم من إذا قيل لهم: قولوها، أو: ذكرت بمحضرهم، يَسْتَكْبِرُونَ أي: يتعاظمون عن قولها، أي: كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها، وأَبَوا إلا الشرك، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ، يعنون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ لكونه مصدِّقاً لما بين يديه من الرسل. وهو ردٌّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ مقابل لقولهم:
«شاعر» لأن الشاعر في الغالب كَذُوبٌ، وتصديق المرسلين في مقابلة مجنون لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسول وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، فعذبتم، على الكفر والتكذيب، وخلدتم، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة: ينبغي للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد، وهي «لا إله إلا الله» أن يخشع قلبه، وتهتز جوارحه، فرحاً بها، ويخضع لمَن جاء بها، ودلَّ عليها، حتى يُدخله في بحار معانيها، وهو التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية النبوية. قال القشيري:.. كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ..
الخ. احتجابُهم بقلوبهم أوقعهمْ في وهْدة عذابهم، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.. «1» وقال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ..
«2» ، فمَن عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته وعبوديته، قال قائلهم:
ويظهرُ في الورى عزُّ الموالي
…
فيلزمني له ذُلُّ العبيد
ولمَّا لم يحتشموا من وصفه- سبحانه- بما لا يليق بجلاله، لم يُبالوا بها أطلقوا من المثالب في جانب أنبيائه. هـ.
ثم استثنى المخلصين، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 50]
إِلَاّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)
(1) من الآية 206 من سورة الأعراف. [.....]
(2)
من الآية 173 من سورة النساء.
يقول الحق جل جلاله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ- بفتح اللام، وكسرها «1» - أي: لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم، أو: الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك، فليسوا مع أولئك المعذّبين، بل أُولئِكَ المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، يأتيهم بكرة وعشياً، كحال المياسير في الدنيا، فهو معلوم الوقت لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري: قد كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم مَن له رزقٌ معلومٌ، فهو من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم، فالأغنياء- اليوم- لهم رزق معلوم لأبشارهم، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. هـ.
ثم فسّره بقوله: فَواكِهُ: جمع فاكهة، وهي كل ما يتلذّذ به، فليس قوتهم لحفظ الصحة، بل رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ.
أو: معلوم، أي: منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم، ورائحة، ولذّة، وحسن منظر، وَهُمْ مُكْرَمُونَ:
معظَّمون. قال القشيري: من ذلك: ورد الرسُل عليهم من قِبَلِ الله- عز وجل في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. هـ.
وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، إما ظرف لمكرمون، أو: حال، أو: خبر، أي: في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ: يُقابل بعضها بعضاً، إن استوت درجتهم، فالتقابل أتم للسرور، وآنس.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ إناء من زجاج فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء.
وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. مِنْ مَعِينٍ من خمر معين، أي: جارية في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة أنهاراً، كما يجري الماء، قال تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ «2» . وقوله: بَيْضاءَ صفة للكأس، أي: صافية في نهاية اللطافة.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: لذيذة للشاربين، وصفت باللذة، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو: ذات لذة. لا فِيها غَوْلٌ أي: لا تغتال عقولَهم فتذهب بها، كخمر الدنيا، وهو من: غاله يغوله: إذا أهلكه وأفسده. أو: لا فيها غول: إثم، أو وجع بطن أو صداع، وهو وجع الرأس، أي: لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، من:
نُزِف الشارب: إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي «3» فمعناه: لا يَنْفَد شرابهم، يقال: أنزف الرجل فهو مُنزف: إذا فنيت خمرته.
(1) قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، «المخلصين» بفتح اللام.
(2)
من الآية 15 من سورة سيدنا محمد.
(3)
قرأ بذلك حمزة، والكسائي. وقرأ الباقون بفتح الزاى.. انظر الإتحاف (2/ 411) .
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي: حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم عِينٌ: جمع عيناء، أي: نجلاء، واسعة العين. يقال: رجل أعين، وامرأة عيناء، ورجال ونساءٌ عينٌ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار، في الصفاء والبياض.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ في الجنة، تساؤل راحة وتنعُّم. والمعنى: أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب، كعادة الشَّرْب «1» . قال الشاعر:
ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلَاّ
…
أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ
أو: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا. وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع.
الإشارة: المخلَصين- بالفتح- أبلغ من المخلِصين- بالكسر- المخلَصين: أخلصهم الله واصطفاهم، والمخلصى: ن طالبين الإخلاص، مجتهدين فيه، الأولون مجذوبون، والآخرون سالكون، الأولون محبوبون، والآخرون مُحبون، الأولون واصلون، والآخرون سائرون. قال القشيري: والإخلاص: إفرادُ الحقِّ- سبحانه- بالعبودية، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص. ويقال: الإخلاص: تصفية العمل، لا توفيقه، وفي الخبر:
«يا معاذ: أخلص العملَ، يكفك القليل منه» «2» . ويقال: الإخلاص: فقد رؤية الأشخاص. هـ.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ للمخلَصين- بالفتح- رزق أرواحهم وأسرارهم، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة. وللمخلصين، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة، على قدر سعيهم هنا، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني، وشرب خمرة المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها.
وقوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، كان من تمام نعميهم في الشرب: التحادث عليها بما يُناسب حالها، ومدحها، كما قال الشاعر:
وإذا جسلت إلى المدام وشربه
…
فاجعل حديثك كله في الكاس
(1) الشّرب: القوم يشربون، ويجتمعون على الشراب، جمع شارب، كركب ورجل. انظر اللسان (شرب 4/ 222) .
(2)
عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 298) لابن أبى الدنيا فى الإخلاص، والحاكم، عن معاذ.