الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أُنزل عليه جملة، ومع ذلك كفروا وكذبوا به، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ «1» ، فكذلك هؤلاء، لو نزل جملة، كما اقترحوا، لكفروا وكذبوا كما كذَّب أولئك. وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً، فأخاه: مفعول أول لجعل، و (وزيراً) : مفعول ثان، أي: جعلنا معه أخاه مقوياً ومعيناً. والوزير: من يُرجع إليه ويُتَحَصَّنُ برأيه، من الوزَر، وهو الملجأ. والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يُبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويُؤمرون أن يوازر بعضهم بعضاً.، أو: يكون وزيراً أول مرة ورسولاً ثانياً.
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: فرعون وقومه. والمراد بالآيات: التسع الظاهرة على يد موس عليه السلام، ولم يتصف القوم بالتكذيب عند إرسالها إليهم ضرورة لتأخير تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن إرسالها، بل إنما وُصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بياناً لعلة استحقاقهم، لما حكي بعده من التدمير.
أي: فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها، فكذبوهما تكذيباً مستمراً، فَدَمَّرْناهُمْ إثر ذلك تَدْمِيراً عجيباً هائلاً، لا يُقادر قدره، ولا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود. انظر أبا السعود.
الإشارة: أعباء الرسالة والولاية لا تحمل ولا تظهر إلا بمُعين. قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى «2» ، ولا بد لصاحب الخصوصية من إخوان يستعين بهم على ذكر الله، ويستظهر بهم على إظهار طريقة الله. فإن وُجد وَليّ لا إخوان له، ولا أولاد، فلا يكون إلا غالباً عليه القبض، مائلاً لجهة الجذب، فيقل الانتفاع به، ولا تحصل التوسعة للوَلي إلا بكثرة الأصحاب والإخوان، يعالجهم ويصبر على جفاهم، حتى يتسع صدره وتتسع معرفته. وبالله التوفيق.
ثم سلّى نبيه بما جرى على الأمم قبله، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 37 الى 40]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
(1) من الآية 48 من سورة القصص.
(2)
من الآية 2 من سورة المائدة.
قلت: (وقوم) : منصوب بمضمر يدل عليه (دمرناهم)، أي: ودمرنا قوم نوح، و (عاداً وثموداً) : عطف على (قوم نوح) .
يقول الحق جل جلاله: وَدمرنا أيضاً قَوْمَ نُوحٍ، وذلك أنهم لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ نوحاً، ومن قبله شَيْثاً وإدريس، أو: لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع لاتِّفَاقِهمْ على التوحيد والإسلام، أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان، وَجَعَلْناهُمْ أي: وجعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً: عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها. وَأَعْتَدْنا هيأنا لِلظَّالِمِينَ أي: لهم. وأظهر في موضع الإضمار للإيذان بتجاوزهم الحد في الظلم، أو لكل ظالم ظلم شرك، فيدخل كل من شاركهم، كقريش وغيرهم، أي: هيأنا عَذاباً أَلِيماً، أي: النار المؤبدة عليهم.
وَدمرنا أيضا عاداً وَثَمُودَ، وقد تقدم في الأعراف «1» ، وهو كيفية تدميرهم. وَأَصْحابَ الرَّسِّ، هم قوم شعيب قال ابن عباس: أصحاب الرسّ: أصحاب البئر. قال وهب: كانوا أهل بئر، قعوداً عليها، وأصحابَ مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيباً، فآذوه، وتمادوا في طغيانهم، فبينما هم حول البئر- والبئر في وسط منازلهم- انهارت بهم وبديارهم، فهلكوا جميعاً. وقال قتادة: الرسُّ: قرية بفَلْح اليمامة، قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله. وقيل: هم بقية قوم هود وقوم صالح، وهم أصحاب البئر، التي قال: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «2» .
وقال سعيد بن جبير وغيره: قوم كان لهم نبي، يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل، يقال له:
فتخ، مَصْعَدُه في السماء ميل، وكانت العنقاء تنتابه، وهي كأعظم ما يكون من الطير، وفيها من كل لون- وسموها العنقاء لطول عنقها- وكانت تنقض على الطير فتأكلها، فجاعت ذات يوم، فانقضت على صبي فذهبت به، - وسميت عنقاء مغرب لأنها تُغّرِّبُ ما تأكله عن أهله، فتأكله- ثم انقضت على جارية قد ترعرعت، فأخذتها فطارت بها، فشكوا إلى نبيهم، فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، فأصابتها صاعقة، فاحترقت، فلم يُر لها أثر، فصارت مثلاً عند العرب. ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله. وقال مقاتل والسدي: هم أصحاب بئر إنطاكية، وتسمى الرس، قتلوا فيها حبيباً النجار، فنُسبوا إليها، وهم الذين ذُكروا في (يس) . وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروه، والرسُّ في كلام العرب: كل محفور مثل البئر، والقبر، والمعدن، وغير ذلك، وجمعها: رساس. وقال عكرمة: هم قوم رسّوا نبيهم في بئر.
(1) راجع تفسير الآيات: 65- 78 من سورة الأعراف.
(2)
من الآية 45 من سورة الحج.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس مِمَّنْ يدخل الجنة عبد أسود، وذلك إن الله تعالى بَعَثَ نَبِياً إلى قَرْيَةٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إلا ذلِكَ الأَسْوَد، فحَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِئْراً وأَلْقوا فِيها نبيهم، وأطْبقُوا عَلَيْهَا بحَجر ضخْم، فكَانَ العَبْدُ يَحْتَطِب على ظهره، ويبيعه، ويأتيه بطعامه، فيعينه الله تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يُدليه إليْهِ. فبينما هو يحْتَطِبُ ذَات يَوْمٍ إذ نام، فَضَرَبَ على أذنهِ سَبْعَ سِنينَ، ثم جاء بطَعَامه إلى البئر فلم يَجِده. وكان قومُه قد بدا لهم فاسْتَخْرجُوه وآمَنُوا بِهِ، ومات ذلك النبي، فقال- عليه الصلاة والسلام: «إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة» «1» ، يعني: من قومه. هـ. وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها، إلا أن يكونوا أحدثوا شيئاً بعد نبيهم، فدمرهم الله.
وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أن أصحاب الرسّ: السحّاقات، قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أن يستكفي الرجالُ بالرجالِ، والنساءُ بالنساءِ» «2» ، وذلك السحاق، ويقال له أيضاً: المساحقة، وهو حرام بالإجماع. وسبب ظهوره: أن قوماً أحدثوا فاحشة اللواط، حتى استغنوا عن النساء، فبقيت النساء معطلة، فجاءتهن شيطانة في صورة إمرأة، وهي الوَلِهات بنت إبليس، فشهَّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضاً، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل، وخسفاً من آخر الليل، وصيحة مع الشمس، فلم يبق منهم بقية. هـ.
وَقُرُوناً أي: دمرنا أهل قرون. والقرن: سبعون سنة، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، بَيْنَ ذلِكَ أي: بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف، كَثِيراً، لا يعلم عددها إلا العليمُ الخبير، وَكُلًّا من الأمم المذكورين قد ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي: بيَّنا له القصص العجيبة، الزاجرة عماهم عليه من الكفر والمعاصي، بواسطة الرسل. وقيل: المراد: تبيين ما وقع لهم، ووصف ما أدى إليه تكذيبهم لأنبيائِهِمْ، من عذاب الله وتدميره إياهم، ليكون عبرة لمن بعدهم، وَكُلًّا أي: وكل واحد منهم تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي: أهلكنا إهلاكاً عجيباً. والتتبير:
التفتيت. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.
ثم بيّن بعض آثار الأمم المُتَبَّرَةِ، فقال: وَلَقَدْ أَتَوْا يعني: أهل مكة عَلَى الْقَرْيَةِ، وهي سدوم، وهي أعظم قرى قوم لوط، وكانت خمساً، أهلك الله أربعاً، وبقيت واحدة، كان أهلها لا يعملون الخبيث، وأما البواقي فأهلكها بالحجارة، وإليه أشار بقوله: الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي: أمطر الله عليها الحجارة. والمعنى: والله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام على القرية التي أهلكها الله، وبقي آثارها خاربة، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها
(1) أخرجه الطبري فى التفسير (191/ 14) عن محمد بن كعب القرطبي، وانظر تفسير ابن كثير (3/ 318) .
(2)
أخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (10/ 282 ح 10556) مطولا من حديث ابن مسعود رضى الله عنه وفيه: «يا ابن مسعود إن أعلام الساعة وأشراطها..» الحديث. قال فى مجمع الزوائد 7/ 323. رواه الطبراني فى الأوسط. وفيه: سيف بن مسكين، وهو ضعيف.