الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مرورهم ورجوعهم، فيتفكرون ويؤمنون، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي: بل كانوا قوماً كفرة بالبعث، لا يخافون ولا يأملون بعثاً، كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو: بل كانوا قوماً كفرة بالبعث، منهمكين في الغفلة، يرون ما نزل بالأمم أمرا اتفاقياً، لا بقدرة الباقي، فطابع الكفر منعهم من التفكر والاعتبار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للمؤمن العاقل، المشفق على نفسه، أن ينظر فيمن هلك من الأمم السالفة، ويتأمل فى سبب هلاكهم، فيشديده على الاحتراز مما استوجبوا به الهلاك، وهو مخالفة الرسل وترك الإيمان فيشديده على متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، ويرغب فيما رَغَّب فيه، ويهتدي بهديه، ويقتدي بسنته، ويربي إيمانه، ويجعل البعث والنشر والحشر بين عينيه، فهذه طريق النجاة. وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث: خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر وبال مَن لم يعظم الواسطة، فقال:
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
يقول الحق جل جلاله: وَإِذا رَأَوْكَ أي: مشركو مكة إِنْ ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي:
مهزوءاً بك، أو محل هزؤ، حال كونهم قائلين: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، ورسولاً: حال من العائد المحذوف، أي: هذا الذي بعثه الله رسولاً، والإشارة للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة، مع كونهم في غاية الإنكار لهما على طريق الاستهزاء، وإلا لقالوا: أبعث الله هذا رسولاً.
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي: ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سَوي. لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها لصرفنا عنها، وهو دليل على مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وإظهار المعجزات لهم، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم وتقليدهم.
قال تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم، مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وأخطأ طريقاً. وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يُمهل ولا يهمل.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي: أطاع هواه فيما يذر ويفعل، فصار معبوده هواه، يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها؟ يُروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وَعَبَد الثاني. وقال الحسن: هو في كل متبع هواه. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه. والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله، كأنه قيل: أبعد ما شاهدت من غلوه في طاعة الهوى، وعتوه عن اتباع الهدى، تقهره على الإيمان، شاء أو أبى، وإنما عليك التبليغ فقط.
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، «أم» : منقطعة، بمعنى بل، أي: بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع، أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ والأنكال؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي: ما هم، في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات، إلاّ كالبهائم، التي هي غاية في الغفلة، ومَثل في الضلالة، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها، وتعرف من يُحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وتأوي إلى معاطنها، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، الذي هو أعدى عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب، ولا يهتدون إلى الحق، الذي هو الشرع الهني، والمورد العذب الروي، ولأنها، إن تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير، لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراب الشر، بخلاف هؤلاء حيث مهَّدوا قواعد الباطل، وفرعوا أحكام الشرور، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها، لا تتعدى إلى أحد، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد، وصد الناس عن سنَن السداد، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، لعدم القوى العقلية، فلا تقصير من قبلها، ولا ذم، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية، مستحقون بذلك أعظم العقاب، وأشد النكال. هـ. وأصله للبيضاوي.