الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الأذواق والكشوفات، يتجدّد له في كل يوم وساعة، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ، بخلاف الملائكة، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ، ولا ينتقل عنه، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها. ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر و؟؟؟ ان، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات، لا في العلوم الغيبية، ولا في الكمالات النفسية. فتأمله.
وقال القشيري: الملائكة لا يتخطون مقامهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله، لا يطلع عليه أحد، والأنبياء- عليهم السلام لهم مقام مشهورٌ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخَلْقِ قدوة، فأمْرُهُم على الشهرة، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ. هـ. وقال الورتجبي: أهل البدايات في مقام الطاعات، والأوْسَاط في المقامات، مثل التوكل والرضا، والتسليم، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة في مقام معارف، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام، ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات، فليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف، حيث أفناهم قهرُ الجلال، والجمال، والعظمة، والكبرياء، عن كل ما وجدوا من الحق، فيبقوا في الفناء إلى الأبد. هـ. قلت: ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد، والزهّاد، وأرباب الأحوال، وحالهم كحال الملائكة، يُمَدُّون في مقامهم، ولا ينتقلون منه، فلكل واحدة قوة في مقامه، لا يطيقها العارف، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات، والترقي فيها أبداً.
ثم قال الورتجبي في قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية، من الصلاة والتسبيح، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية. قال بعضهم: لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة، حتى قالوا بالتفخيم: إِنَّا لَنَحْنُ، فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة، حتى قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. هـ. وكلامنا كله مع عامة الملائكة، وأما المقربون فالأدب الإمساك عنهم- صلوات الله وسلامه عليهم.
ثم رجع إلى الكلام مع قريش، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 182]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
يقول الحق جل جلاله: وَإِنْ كانُوا أي: مشركو قريش لَيَقُولُونَ قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: كتاباً من كتب الأولين، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: لأخلصنا لله، وما كذّبنا كما كذَّبوا، ولَمَا خالفنا كما خالفوا، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب، فكفروا به، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم، وما يحلّ بهم من الانتقام. و «إن» مخففة، واللام فارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولون، مؤكّدين للقول، جادّين فيه، ثم نقضوا بأشنع نقض، فكم بين أول الأمر وآخره!.
ثم بشَّر رسولَه بالنصر والعز، فقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي: وعدناهم بالنصر والغلبة.
والكلمةُ هي قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ دون غيرهم، إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
، وإنما سمّاها كلمةٌ، وهي كلمات لأنها لَمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد: الوعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الاحتجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وعن الحسن: ما غُلب نبيّ في حرب قط.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن لم ينتصروا في الدنيا نُصروا في العُقبى. والحاصل: أن قاعدة أمرهم، وأساسَه، والغالب منه: الظفَرُ والنصر، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر، والعبرة بالغالب.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ إلى مدة يسيرة. وهى المدة التي أملهوا فيها، أو: إلى بدر، أو: إلى فتح مكة، وَأَبْصِرْهُمْ أي: أبصر ما ينالهم، والمراد بالأمر: الدلالة على أن ذلك كائن قريب، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من النصر والتأييد، والثواب الجزيل في الآخرة. و «سوف» للوعيد، لا للتبعيد.
ولَمّا نزل: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا: متى هو؟ فنزل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قبل وقته؟ فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ صباحهم. واللام للجنس لأن «ساء» و «ليس» يقتضيان ذلك. قيل: هو
نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وقيل: نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هَجَمَ فأناخ بفنائهم بغتةً.
والصباح: مستعار من: صباح الجيش المبيت، استعير لوقت نزول العذاب. ولَمّا كثرت الغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً، وإن وقعت في غيره.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، كُرر ليكون تسلية بعد تسلية، وتأكيداً لوقوع الوعد إلى تأكيد، وفيه فائدة، وهو إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول، بعد التقييد له، إيذان بأنه يُبْصِر من صنوف المسرة ويُبصرون من أنواع المساءة ما لا يفي به نطاقُ العبارة. وقيل: أريد بأحدهما: عذاب الدنيا، وبالآخرة: عذاب الآخرة.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ، أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها، أو: يريد: أن ما من عزّة لأحد إلا وهو ربها ومالكها، لقوله: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» أي: تنزيهاً له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، عمم الرسل بالسلام بعد ما خصص البعض في السورة لأن في تخصيص كلٍّ بالذكر تطويلاً.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء.
قيل: في ختم السورة بالتسبيح بعد ما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذبيهم، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلساً من فلتة أو هفوة، وكلمات فيها رضى الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلسه أن يتلو هذه الآية لتكون مكفرة لتلك السقطات، ويحمد لِمَا وفق من الطيبات، ومن ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم:«كلمات لا يتكلمُ بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كُفِّرَ بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ، ومجلس ذكرٍ، إلا ختم الله بهن، كما يُخْتَمُ بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» «2» . والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن عليّ- كرّم الله وجهه: مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «3» .. إلخ.
(1) من الآية 26 من سورة آل عمران.
(2)
أخرجه، بلفظه، أبو داود فى (الأدب، باب فى كفارة المجلس 5/ 181، ح 4857) وابن حبان في صحيحه (592) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، موقوفا. وأخرجه أبو داود فى الموضع نفسه (ح 4858) عن أبى هريرة مرفوعا. ولم يذكر أبو داود نص الرواية، بل قال- بعد ذكره لرواية عبد الله بن عمرو:(عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله)، وأخرجه بنحوه الترمذي فى (الدعوات باب: ما يقول إذا أقام من المجلس 5/ 460- 461، ح 3433) من حديث أبى هريرة، مرفوعا.
(3)
أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 66) وعبد الرزاق فى المصنف (2/ 237) ، عن سيدنا علىّ، موقوفا، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 554) لابن أبى حاتم، من رواية الشعبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سلمتم عليَّ فسلِّموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم» «1» .
الإشارة: ترى بعض الناس يقول: لو ظهر شيخ التربية لكُنَّا من المخلصين، بصحبته وخدمته، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر، وأَنِفَ واستكبر، وقنع بما عنده من العلم، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه، من الامتحان في أول البادية، قال: ليس هذه طريق الولاية، فيقال له: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين، ولِمن كان على قدمهم، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون، فتولّ عن مثل هذا حتى حين، وهو وقت هجوم الموت عليه، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب، وسوء الحساب، فسوف يُبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم، فيقال له: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ
…
الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أُوذوا قابلوا بالإحسان، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن، فينزهونه بقولهم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» .
(1) أخرجه الطبري (23/ 116) وزاد السيوطي فى الدر (5/ 553) عزوه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن قتادة، بنحوه. كما عزاه السيوطي لابن مردويه، وابن سعد، عن قتادة، عن أنس.
(2)
إلى هنا ينتهى المجلد الرابع بتجزئة المحقق، ويتلوه- إن شاء الله- المجلد الخامس، وأوله تفسير سورة «ص» . - أسأل الله العلى القدير- أن يتقبله بأحسن قبول، وأن يبلّغ من طالعه كل مأمول. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. وكان الفراغ من نسخ هذا المجلد وتحقيقه ومراجعته فى الثاني عشر من ربيع الأول، سنة عشرين وأربعمائة وألف، على يد/ أحمد عبد الله القرشي، عفا الله عنه، آمين.