الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة، وغاب في الشهود والنظرة، لا يجول إلا في عظمة الذات، وأسرارها، وبهائها، وجمالها، لا يخطر على باله غيرها، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية. هذه هي الفكرة الصافية، والنظرة الشافية، متعنا الله بها على الدوام. آمين.
ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 51 الى 61]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَاّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
يقول الحق جل جلاله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي: من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في الدنيا، قيل:
كان شيطاناً، وقيل: من الإنس، ففيه التحفُّظ من قرناء السوء، وقيل: كانا شريكين بثمانية آلاف دينار، أحدهما:
قطروس، وهو الكافر، والآخر: يهوذا، المؤمن، فكان أحدهما مشغولاً بعبادة الله، وكان الآخر مُقبلاً على ماله، فحلَّ الشركة مع المؤمن، وبقي وحده لتقصير المؤمن في التجارة، وجعل الكافر كلما اشترى شيئاً من دار، أو جارية، أو بستان، عرضه على المؤمن، وفخر عليه، فيمضي المؤمن، ويتصدّق بنحو ذلك، ليشتري به من الله تعالى في الجنة. فكان من أمرهما في الجنة ما قصّه اللهُ تعالى في هذه الآية «1» . قال السهيلي: هما المذكوران في سورة الكهف بقوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ..»
إلخ.
يَقُولُ أي: قرين السوء، لقرينه المؤمن في الدنيا: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من: الدين، وهو الجزاء.
(1) ذكر السيوطي القصة بطولها فى الدر (5/ 518- 519) وعزاها لعبد الرزاق، وابن المنذر، عن عطاء الخراسانى، وأخرجها الطبري (23/ 56) عن فرات بن ثعلبة البهراني. وقد ذكر الشيخ ابن عجيبة- رحمه الله تعالى- القصة كاملة عند تفسير الآية 32 من سورة الكهف.
(2)
الآية 32 وما بعدها من سورة الكهف.
قالَ ذلك القائل لمَن معه في الجنة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لأريكم حال ذلك القرين. قيل:
إن في الجنة كُوىً ينظر أهلُها منها إلى أهل النار. قلت: حال الجنة كله خوارق، فيُكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل: القائل: هو الله، أو: بعض الملائكة. يقول لهم: هل تُحبون أن تطلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، أو: لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي: أو: إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة: هل أنتم ناظرون أخي في النار؟، فيقولون له: أنت أعرف به منا، فانظر إليه. فَاطَّلَعَ على أهل النار فَرَآهُ أي:
قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها.
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتُهلكني بإغوائك. و «إن» مخففة، واللام: فارقة، أي: إنه قربت لتهلكني، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي عليَّ بالهداية، والعصمة، والتوفيق للتمسُّك بعروة الإسلام، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك، أو: من الذين أُحضروا العذاب، كما أُحْضِرْتَه أنت وأمثالك.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، الفاء للعطف على محذوف، أي: أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه في الجنة، لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله وحال رفقائه في الجنة، تحدُّثاً بنعمة الله. أو: قاله بمرأى من قرينه ومسمع ليكون توبيخاً له، وزيادة تعذيب، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه، كأنه يقول: أين الّذي كنت تقول في الدنيا من أنَّا نموت، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى «1» والتقدير: أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمعذَّبين، بل الأمر وقع خلافَه، وكان يقال له: نحن نموت ونُسأل في القبر، ثم نموت ونحيا، فيقول:
ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.. إلخ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام، أي: إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال اللهُ- عز وجل: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية، المشوبة بالآلام، السريعة الانصرام. أو: لمثل هذا فليجتهد المجتهدون، مادام يُمكنهم الاجتهاد، فإنَّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فبقدر ما يزرع هنا يحصد ثَمَّ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.
(1) الآية 35 من سورة الدخان.