الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالطريق يوماً أو ساعة، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من سكانها، أي: لا يملك التصرف فيها غيرنا.
وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل: إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله فيه بالهلاك، وأما متبع الهدى فهو آمن والعاقبة له.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى بذنب حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها، أي: القرية التي هي أصلها ومعظمها لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو: ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة لأن الأرض دُحِيت من تحتها. رَسُولًا يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا القرآن، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ، أي: وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا، ولذلك حقّر الله تعالى شأنها، حيث قال:
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 62]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
قلت: «ما» : شرطية، وجملة:(فمتاع..) إلخ: جوابه.
يقول الحق جل جلاله: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زهرة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي:
ايُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياماً قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، وَما عِنْدَ اللَّهِ من النعيم الدائم في الدار الباقية ثواباً لأعمالكم خَيْرٌ من ذلك لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة.
وَأَبْقى لأنه دائم لا يفنى، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي خير من الفاني، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتربى، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية) . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ لما سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ» «1» . رواه الترمذي.
ثم قرر ذلك بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً، وهو الجنة إذ لا شيء أحسن منها، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم، ولأنها دائمة، ولذا سميت الحسنى، فَهُوَ أي: الوعد الحسن لاقِيهِ ومدركه، لا محالة، لامتناع الخلف في وعده تعالى، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب، مستعْقب بالفناء والانقطاع، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعقاب، أو: من الذين أُحضروا النار.
والآية نزلت في المؤمن والكافر، أو: في رسول صلى الله عليه وسلم وأبي جهل «2» - لعنه الله-، ومعنى الفاء الأولى: أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ أي: أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة؟ والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و «ثم» : لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ: «ثم هْو» بالسكون، شبه المنفصل بالمتصل، كما قيل في عضد- بسكون الضاد-.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ يوم ينادي الله الكفارَ، نداء توبيخ، فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ في زعمهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركائي، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ، وفي حديث آخر:«ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به» «3» . بالمعنى. فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء فى هوان الدنيا على الله، 4/ 485 ح 2320) ، وابن ماجه فى (الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1376، ح 4110) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الطبري (20/ 97) عن مجاهد.
(3)
أخرجه مسلم بنحوه فى (الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، 4/ 2193، ح 2858) من حديث المستورد أخى بن فهر رضي الله عنه.