الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذا قرابة قريبة، كأب، وولد، وأخ. والفرق بين معنى قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وبين قوله: إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أنَّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه، وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في بيان أنه لا غياث يومئذ لمَن استغاث، فمَن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يُغثه، وهذا غاية الإنذار.
ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه بِالْغَيْبِ أي: يخشون ربهم غائبين عنه، أو: يخشون عذابه غائباً عنهم، فهو حال، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو: يخشون ربهم في حال الغيب، حيث لا اطلاع للغير عليهم، فيتقون الله في السر، كما يتقون في العلانية. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها في مواقيتها، وَمَنْ تَزَكَّى أي: تطهّر بفعل الطاعات، وترك المنهيات، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذا نفعه يعود لها، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم، وإقامتهم الصلاة لأنها من جملة التزكي. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيهم على تزكيتهم، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب.
الإشارة: وبال الوزر خاص بصاحبه، إلا إذا كان مقتدى به، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه، حتى يطهر منه لأن الصحبة صيرت الجسدين واحداً. وراجع ما تقدم عند قوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً
…
«1» الآية. قال القشيري: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، ومحاسبٌ عن ديوانه. ولكلٍّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة، ولكن في المعارف لا تجري النيابة ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ، وألفُ صَفِيٍّ، تلك الصلاة الواحدة، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ. هـ. وقال في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ
…
الخ: الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشيةُ هي المخافة، فمعنى الآية: لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف- طيرُ السماء على إلا فها تقع. هـ.
ثم ضرب المثل لمن تزكى، ومن لم يتزك، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 24]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَاّ نَذِيرٌ (23)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
(1) الآية 25 من سورة الأنفال.
يقول الحق جل جلاله: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي: لا يستوي الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم. وقيل: هما مثلان للصنم ولله تعالى. وَلَا الظُّلُماتُ كالكفر والجهل، وَلَا النُّورُ كالإيمان والمعرفة، وَلَا الظِّلُّ كنعيم الجنان، وَلَا الْحَرُورُ كأليم النيران. والحَرور: الريح الحارّ كالسموم، إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور يكون بالليل والنهار. قاله الفرّاء.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين، أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل، وقيل: للعلماء والجهال. وزيادة «لا» في الجميع للتأكيد، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وترأً إلى وتر. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، شبّه الكفار بالموتى، حيث لا ينتفعون بمسموعهم، مبالغة في تصاممهم، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيهدي مَن يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين، فإنذار هم كإنذار مَن في القبور من الموتى.
قال ابن عطية: الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول: إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك «1» ، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. هـ «2» .
ثم قال تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه، وإن كان من المصريين فلا عليك.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي: محقاً، أو: محقين، أو: إرسالاً مصحوباً بالحق، فهو حال من الفاعل، أو المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، بَشِيراً لمَن آمن وَنَذِيراً لمَن كفر، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي:
ما من أُمة من الأمم الماضية، قبل أمتك، إلا فيها نذير نبيّ، أو عالم، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر: أمة.
والمراد هنا: أهل العصر. قال ابن عطية: معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة، فهو ممن بَلَغَته الدعوة، لأن آدم بُعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم. والآية
(1) من هذه الأحاديث ما أخرجه الدارمي فى (الجهاد، باب أرواح الشهداء) عن مسروق، قال: سألنا عبد الله فى أرواح الشهداء ولولا عبد الله لم يحدثنا أحد. قال: أرواح الشهداء عند الله يوم القيامة في حواصل طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح فى أىّ الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيشرف عليهم ربهم، فيقول: ألكم حاجة؟ تريدون شيئا؟ فيقولون: لا، إلا أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى.
(2)
النقل باختصار.
تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذيرٌ، ومعناه: نذيرٌ مباشر، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم، فإنما ذلك بالفرض، لا أنه توجد أُمةً لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. هـ.
وذكر في الإحياء، في باب التوبة: أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا [على البله]«1» وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين. هـ. وقال ابن مرزوق في شرح حديث [هرَقْل] «2» : الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحيله بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطئ قطعاً. هـ.
وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه: آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار. هـ. وقال أيضاً: إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه: أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين- وهذا قليل الوجود- إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. هـ.
والحاصل: أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان. قاله المحشي.
الإشارة: وما يستوي الأعمى، الذي لا يرى إلا حس الكائنات، والبصير، الذي فتحت بصيرته، فشاهد المكوّن، ولم يقف مع حس الكون، ولا الظلمات: المعاصي والغفلة ودائرة الحس، ونور اليقظة والعفة والمعرفة، ولا ظل برد الرضا والتسليم، وحرور التدبير والاختيار، وما يستوي الأحياء، وهم العارفون بالله، الذاكرون الله، والأموات الجاهلون، أو الغافلون. قال القشيري: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ.. الآية، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا، ومَن أشهدناه حقَّنا، ومَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا. هـ.
(1) الكلمة مشتبهة فى الأصول، وأثبتها من إحياء علوم الدين 4/ 32.
(2)
ما بين المعقوفتين أثبته من النسخة التيمورية، وهو مطموس فى النسخ الأخرى. قلت: وحديث هرقل أخرجه البخاري فى (بدء الوحى، باب 6، ح 7) ومسلم فى (الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1393- 1397، ح 1773) عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه.