الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بينك وبين الله: إدامة التبري من الحول والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام. وفى التوكل:
عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر [بالوجد]«1» ، وفي الأمر بالمعروف: التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألَاّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال:
الصدق: أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد. ويقال: الصدق: ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
ثم شرع فى غزوة الأحزاب، التي هى المقصودة من السورة، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أي: ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ. إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ أي: الأحزاب، وهم: قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير، وهم السبب فى إتيانهم، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً أي: الصّبا، قال عليه الصلاة والسلام:«نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور» «2» . قيل: كانت هذه الريح معجزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، ولم يكن بينهم وبينها إلا عُرض الخندق، وكانوا فى عافية منها. وَلا شعور لهم بها.
وأرسلنا عليهم جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة، وكانوا ألفاً، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور.
وكان سبب غزوة الأحزاب: أن نفراً من اليهود، منهم ابن أَبي الحقيق، وحُيي بن أخطب، في نفر من بني النضير، لَمَّا أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من بلدهم، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا إلى غطفان، وأشجع، وفزارة، وقبائلَ مِنَ العرب، يُحرضونهم على ذلك، على أن يعطوهم نصف تمر خيبر كل
(1) فى القشيري [بالوجود] . [.....]
(2)
سبق تخريج الحديث عن تفسير الآية 46 من سورة الروم. فراجعه إن شئت، أكرمك الله.
سنة. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حِصن، والحارث بن عوف في مُرة، وسعد بن رخيلة «1» في أشجع، وعامر بن الطفيل في هوازن.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ضرب الخندق على المدينة، برأى سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حُر. وقال: يا رسول الله: إنا كنّا بفارس إذا حُوصرنا: خَنْدَقْناَ علينا، فحفر الخندق، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي، إلى جانب أُحد. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «2» .
واشتد الخوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون، بِضعاً وعشرين ليلة، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمَن معهما، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقال سعد بن معاذ: أشيء أمرك الله به، لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تحبه فنصنعه، أم شيء تصنعه لنا؟
قال: «لا، بل شيء أصنعه لكم، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم» . فقال سعد: يا رسول الله لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة، إلا قِرىً، أو شراءً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال- عليه الصلاة والسلام:«فأنت وذاك» ، فمحا سعدُ ما في الكتاب، وقال: ليجهدوا علينا» .
ثم إن الله تعالى بَعَثَ عليهم ريحاً باردة، في ليلة شاتية، فأحصرتهم، وأحثت الترابَ في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأكفأت القدور، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض.
وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء يقول: يَا بَني فلان، هلمّوا، فإذا اجتمعوا إليه قال: النَّجا، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، أي: بصيراً بعملكم، من حَفر الخندق، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم، والثبات معه، فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو: بالغيب، أي: بما يعمل الكفار من البغي، والسعي في إطفاء نور الله،
(1) فى تفسير البغوى [مسعود بن رخيلة] .
(2)
الآطام: الحصون. جمع أطم. انظر اللسان (أطم 1/ 93) .
(3)
انظر: السيرة لابن هشام (3/ 225) .
إِذْ جاؤُكُمْ هو بدل من: (إذ جاءتكم) ، مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، من قِبَل المشرق. وهم بنو غطفان.
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قِبَل المغرب، وهم قريش. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها حَيْرَةً وشخوصاً. أو: مالت إلى عدوها لشدة الخوف، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رُعباً.
والحنجرة: رأس الغَلْصَمَة، وهي منتهى الحلقوم، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا: إذا انتفخت الرئة، من شدة الفزع والغضب، رَبَتْ، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: «نعم، قولوا:
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» «1» .
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف منهم الأقوياء، ومنهم الضعفاء، ومنهم المنافقون. فظنّ الأقوياء، المخلصون، الثُبْتُ القلوب أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه، ويمتحنهم، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال، وأما الآخرون فظنُّوا ما حكى عنهم، وهم الذين زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، دون الأقوياء رضى الله عنهم، وقرأ أبو عمرو وحمزة: الظنون بغير ألف، وهو القياس. وبالألف فيهما: نافع، والشامي، وشعبة إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكيّ، وعليّ، وحفص: بالألف في الوقف. ومثله: الرَّسُولَا «2» و (السبيلا)«3» ، زادوها في الفاصلة، كما زادوها في القافية، كقوله:
«أقِلّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ والعِتابا» «4» وهو في الإمام: بالألف.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي: اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، والثابت من المزلزل، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وحُركوا، بالخوف، تحريكاً شديداً.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص اذكروا نعمةَ الله عليكم بالتأييد والنصر، فحين تَوَجَّهْتُمْ إليّ، ودخلتم في طريق ولايتي، رفضتكم الناس، ونكرتكم، ورمتكم عن قوس واحدة، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس
(1) أخرجه أحمد (3/ 3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
من الآية 66 من سورة الأحزاب.
(3)
من الآية 67 من سورة الأحزاب. وانظر الحجة لأبى على الفارسي (5/ 468- 469) .
(4)
صدر بيت لجرير، وعجزه: وقولى- إن أصبت- لقد أصابا. انظر: معانى القرآن للزجاج (4/ 218) .