الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالهلاك والتدمير. فالنكير: مصدر، كالإنكار معنى، وكالنذير وزناً. و (كيف) للتعظيم، لا لمجرد الاستفهام، أي:
فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل [ما حل]«1» بأولئك لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري: إن الحكماء والأولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء- وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا:
مَن ذا الذي يطيق هذا؟ ولا بُد من الدنيا مادمت تعيش! .. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها.. ما حاصله: إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قلت: «أن تقوموا» : بدل من «واحدة» ، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ لهم: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة، وهي: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي: لوجه الله خالصاً، لا لحمية، ولا عصبية، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوي، وهو القصد والتوجُّه بالقلب، وقيل: حسي، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم كل واحد منفرداً بنفسه، يتفكر، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله: مَثْنى وَفُرادى أي: اثنين اثنين، أو فرداً فرداً. والمعنى:
أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا وتنهضوا الله، معرضين عن المراء
(1) فى النسخة الأم [ما حق] .
والتقليد، متفرقين اثنين اثنين، أو واحداً واحداً فإنَّ الازدحام يُشوّش الخاطر، ويخلط القول، ويمنع من الرويّة، ويقلّ فيه الإنصاف، ويكثر الاعتساف.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، حتى تعلموا أنه حق، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف، حتى يؤديهما النظرُ الصحيح إلى الحق، وكذلك المفرد، يتفكر في نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالإنصاف عرفتم أن ما بِصاحِبِكُمْ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ من جنون، وهذا كقوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» .
ومنهم مَن يقف على «تتفكروا» ثم يستأنف النفي. قال القشيري: يقول: إذا سَوَّلَتْ لكم أنفسكم تكذيبَ الرسل، فأمعنوا النظرَ، هل تَرَوْنَ فيهم آثار ما رميتموهم به- هذا محمد صلى الله عليه وسلم قُلْتُم ساحر، فأين آثار السحر في أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم: فأيّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قُلْتُم مجنون، فأيُّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلَاّ اعترفتم به أنه صادق؟!. هـ.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي: قُدَّام عذابٍ شديد، وهو عذاب الآخرة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم:«بُعثتُ بين يَديِ الساعة» «2» .
الإشارة: فكرة الاعتبار تشد عُروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان، فأول ما يتفكر فيه الإنسان فى أمره صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية، والشرائع المتباينة، مع كونه أُميًّا، لم يقرأ، ولم يطالع كتاباً قط، وما أخبر به من أمر الغيب، فوقع كما أخبر، وما ظهر على يديه من المعجزات، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام من الأخلاق الحسنة، والشيم الزكية، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ سياسة الخلق، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر رباني، وتأييد إلهي. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة، ترقى بها إلى أنوار الربوبية، فيتفكر في عجائب السموات والأرض، فيعرف عظمة صانعها، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان، فيغيب عن نظرة الأكوان، ويبقى المُكوّن وحده. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.
(1) من الآية 184 من سورة الأعراف.
(2)
بعض حديث، أخرجه أحمد فى المسند (2/ 50) وابن أبى شيبة فى مصنفه، من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه (5/ 313)، وانظر: مجمع الزوائد (5/ 267)، وجاء معنى الجملة عند البخاري ومسلم بلفظ:«بعثت أنا والساعة كهاتين» أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ح 6504) ومسلم فى (الفتن، باب قرب الساعة، 4/ 2268، ح 2951) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.