الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما. فآداب القبض: الصبر، والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط: الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كل يجري إلى أجل مسمى فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إِنَّ الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن في ذلك لآيات لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.
وإذا غشيهم، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجئوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا، فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم: غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم: غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ، ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا،
…
أَحِبَّاءَنَا: كم تجهلون ونحلم!
ثم ختم بالوعظ والتذكير، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قلت: (بأي أرض) قال في المصباح: الأفصح: استعمال «أي» في الشرط والاستفهام بلفظ واحد، للمذكر والمؤنث، وعليه قوله تعالى: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
«1» ، وقد تطابق في التذكير والتأنيث، نحو: أَيُّ رَجُلٍ، وأي وأية امرأة. وفي الشاذ: بأية أرض تموت. هـ.
(1) من الآية 81 من سورة غَافر.
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بطاعته وترك معصيته. وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئاً، لا يقضى عنه شيئاً، ولا يدفع عنه شيئاً. والأصل:
لا يجزى فيه، فحذف. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً، وتغيير النظم في حق الولد، بأن أكده بالجملة الاسمية، وبزيادة لفظ (هو)، وبالتعبير بالمولود للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آباءهم الذين ماتوا على الكفر بالشفاعة في الآخرة. ومعنى التأكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه، فضلاً عن أن يشفع لأجداده لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود لأنه لِمَا وُلِدَ منك.
كذا في الكشاف، قلت: وهذا في حق الكفار، وأما المؤمنون فينفع الولد والده، والوالد ولده بالشفاعة، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ، وكل من له جاه عند الله، كما تقدم في سورة مريم «1» .
ثم قال تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والحساب والجزاء، حَقٌّ لا يمكن خلفه، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزخارفها الغرارة فإِنَّ نعمها دانية، ولذاتها فانية، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء، بالزهد فيها، والتفرغ لِمَا يرضي الله، من توحيده وطاعته، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ، أي: لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحمله، أو: لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به، الْغَرُورُ أي: الشيطان، أو: الدنيا، أو: الأمل. وفي الحديث: «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ المَوْتِ، والأحمقُ من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأمَاني» «2» . وفي الحديث أيضاً: «كَفَى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً» .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: وقت قيامها، فلا يعلمه غيره، فتأهبوا لها، قبل أن تأتيكم بغتة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ: عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل، أي: إن الله يُثبت عنده علم الساعة، ويُنزل الغيث في وقته، من غير تقديم ولا تأخير، وفي محله، على ما سبق في التقدير، ويعلم كم قطرة ينزلها، وفي أي بقعة يمطرها.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وشقي أو سعيد، وحسن أو قبيح. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، ووفاق وشقاق، فربما كانت عازمة على الخير فعملت شراً، أو على شر فعملت خيراً. وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت:
لا أبرحُها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.
رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: مَن هذا؟ فقال:
ملك الموت، فقال: كأنه يُريدني، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك. هـ.
(1) راجع إشارة الآية 87 من سورة مريم.
(2)
سبق تخريج الحديث عند إشارة الآيات: 38- 40 من سورة العنكبوت.
وجعل العلم لله والدرايةَ للعبد، لِمَا في الدراية من معنى التكسب والحيلة، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها. وأما المنجم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيباً، على أنه مجرد الظن، والظن غير العلم. وعن ابن عباس: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب.
وجاءه يهودي منجم، فقال: إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت. قال له: أين موتك؟ قال: لا أدري، فقال ابن عباس: صدق الله: ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت، وسأله عن مدة عمره، فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو إشارة إلى هذه الآية، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلَاّ الله. هـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: قيل: أنَّ الله تعالى يُعْلِم الأشياء بالوَسم والرسم، والرسم يتغير، والوسم لا يتغير، فقد أخفى الله تعالى الساعة، ولم يخف أمارتها، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه، ولكن لا من كل وجوهه، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص، جُملة لا تفصيلي، وجزئي لا كُلي، ومقيد لا مطلق، وعرضي لا ذاتي، بخلاف علمه تعالى. هـ.
قال المحلي: روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. «1»
إلى آخر السورة.. ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة، بعد كلام، ما نصه: والحكمة في جعلها خمسة: الإشارة إلى حصر العوالم فيها، ففي قوله: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ: الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها، فغيرها بطريق الأولى. وفي قوله:
لا يعلم متى يأتي المطر: إشارة إلى أمور العالم العلوي، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل بجرى العادة على وقوعه، لكنه من غير تحقيق. وفي قوله:«لا تدري نفس بأي أرض تموت» : إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه، بل قبر أعده هو له.
وفي قوله: «ولا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إلا الله» : إشارة إلى أنواع الزمان، وما فيها من الحوادث، وعبَّر بلفظ (غدٍ) لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه، مع إمكان الأمارة والعلامة، فما بعد
(1) أخرج حديث مفاتيح الغيب، البخاري فى (الاستسقاء، باب لا يدرى متى يجىء المطر إلا الله ح 1039) .
عنه أولى. وفي قوله: «متى تقوم الساعة إلا الله» إشارة إلى علوم الآخرة، فإن يوم القيامة أولها، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعدُ، فجمعت الآية أنواع الغيوب، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة. وقد بيّن في قوله تعالى:
في الآية الأخرى، وهي قوله: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى.. «1» الآية، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. هـ ملخصاً.
والحاصل: أن العوالم التي اختص الله بها خمسة: عالم القيامة وما يقع فيه، والعالم العلوي وما ينشأ منه، وعالم الأرض وما يقع فيه، وعالم الإنسان وما يجري عليه، وعالم الزمان وما يقع فيه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ عليم بالغيوب، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري: أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب هـ.
الإشارة: يا أيها الناس المتوجهون إلى الله، إن وعد الله بالفتح، لمن أنهض همته إليه، حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها، عن النهوض إليها، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور، فيغركم بكرم الله، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما، إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ الساعة التي يفتح على العبد فيها، وينزل غيث المواهب والواردات، ويعلم ما في أرحام الإرادة، من تربية المعرفة واليقين، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه، وما تلقاه من المقادير الغيبية، فيجب عليها التفويض والاستسلام، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها، إن الله عليم خبير.
قال القشيري: في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ: خوّفهم، تارةً، بأفعاله، فيقول: اتَّقُوا يَوْماً «2» ، وتارة بصفاته، فيقول: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «3» ، وتارة بذاته، فيقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «4» . هـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
(1) الآيتان 26- 27 من سورة الجن.
(2)
جاء فى آيات كثيرة، منها الآية 48 من سورة البقرة.
(3)
من الآية 14 من سورة العلق.
(4)
من الآية 28 من سورة آل عمران.