الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الكتاب، وعرف مدلوله ومقصوده، لكن من السياسة أن يتدرج المريدُ في تركها شيئاً فشيئاً، حتى يخرج عنها، أو يغيب عن شغلها بالكلية، وإن كانت بيده. فلما خرجوا عن عرش نفوسهم لله، وتوجهوا إليه، ورأى ذلك منهم، قال: هذا من فضل ربي، حيث وقعت الهداية على يدي، ليبلوني، أشكر أم أكفر.. الآية. قال نكروا لها عرشها، أي:
اعرضوا عليها الدنيا، وأرُوها عرشها التي كانت عليه، متغيراً عن حاله الأولى- لأنه كان معشوقاً لها، والآن صار ممقوتاً لغناها بالله- ننظر أتهتدي إليه، وترجع إلى محبته، فيكون علامة على عدم وصولها، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبداً، فتكون قد تمكنت من الأنس بالله، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختباراً، قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وأوتينا العلم بالله من قبل هذه الساعة، وكنا منقادين لمراده، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه لله أبداً. وصدّها عن الحضرة ما كانت تعبدُ من الهوى، من دون محبة الله، إنها كانت من قوم كافرين، منكرين للحضرة، غير عارفين بها. قيل لها حين رحلت عن عرشها: ادخلي دار الحضرة، فلما رأت بحر الوحدة، يتموج بتيار الصفات، دهشت، وحسبته لُجةً، يغرق صاحبه في بحر الزندقة، قال لها رئيس البحرية- وهو شيخ التربية: إنه بحر منزه متصل، لا أول له، ولا آخر له. ليس مثله شيء، ولا معه شيء، محيط بكل شيء، وماحٍ لكل شيء. ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها، مشغولة بهواها، قبل أن تعرف هواه، فلما عرفته غابت عن غيره، واستسلمت وانقادت له. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة صالح عليه السلام فقال:
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
قلت: (ولقد أرسلنا) : عطف على (ولقد آتينا داود
…
) الخ.
يقول الحق جل جلاله: وَالله لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ نسباً صالِحاً، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: بأن اعبدوه وحده، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي: ففاجئوا التفرق والاختصام، ففريق مؤمن به،
وفريق كافر، أو: يختصمون فيه، فكل فريق يقول: الحق معي. وقد فسر هذا الاختصام قوله تعالى في الأعراف:
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «1» . قالَ عليه السلام للفريق الكافر، بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد، حتى استعجلوا العذاب: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة السيئة قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: التوبة الصالحة، فتؤخرونها إلى حين نزولها، حيث كانوا- من جهلهم وغوايتهم يقولون: إن وقع العذاب تُبنا حينئذٍ، وإلا فنحن على ما كنا عليه. أو: لِمَ تستعجلون بالعذاب قبل الرحمة، أو: بالمعصية قبل الطاعة، لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ: هلا تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزوله، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالإجابة قبل النزول، إذ لا قبول بعده، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ تشاء منا بك وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين لأنهم قُحِطوا عند مبعثه لكفرهم، فنسبوه إلى مجيئه. والأصل: تطيرنا. وقرئ به، فأدغمت التاء في الطاء، وزيدت ألف وصل، للسكون.
قالَ صالح عليه السلام: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سببكم الذي به ينالكم ما ينالكم من الخير والشر عند الله، وهو قدره وقضاؤه، أو: عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل، عقوبة لكم وفتنة. ومنه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «2» أي: ألزمناه جزاء عمله، أو: ما قدر له في عنقه، وأصله: أن المسافر كان إذا مرّ بطائر يزجره، فإن مر إلى جهة اليمين تيمن، وإن مر إلى ناحية الشمال تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، أو: من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ: تختبرون بتعاقب السراء والضراء، أو: تعذبون، أو: يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة. قال- عليه الصلاة والسلام: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» «3» وقال أيضاً: «إذا تطيرت فلا ترجع» «4» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: سَير أهل التربية مع أهل زمانهم كسير الأنبياء مع أممهم، إذا بعثهم الله إلى أهل زمانهم اختصموا فيهم، ففريق يصدق وفريق يكذب، فيطلبون الكرامة والبرهان، ويتطيرون بهم وبمن تبعهم، إن ظهرت بهم قهرية من عند الله، كما رأينا ذلك كله. وبالله التوفيق.
(1) الآيتان: 75- 76 من سورة الأعراف.
(2)
من الآية 13 من سورة الإسراء.
(3)
أخرجه البخاري فى (الطب، باب الطيرة، ح 5753) ومسلم فى (السلام، باب الطيرة والفأل 4/ 1747، ح 2225) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(4)
قال ابن حجر فى الفتح (10/ 224) : أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد:
الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق، وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبى هريرة، أخرجه البيهقي فى الشعب. هـ.