الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن المنكر سائر عبادات اللسان، ومنها: الصبر على النوائب، سواء كانت من جهة الخلق، أو من قهرية الحق، وهو ركن في الطريق. وتقدم تفصيله في آخر النحل «1» . ومنها: التواضع والليونة، وهما مصيدة الشرف، ومن شأن أهل السياسة. ومن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوق قدره. وهو قوله: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. ومنها: السكينة والوقار والرزانة، وهي نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال. وهو قوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. ومنها: خفض الصوت في سائر الكلام، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة، والقرب من الحق، قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «2» ، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء.
قال القشيري: قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ..، الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغُهُ: أن تمنع نفسك عما تنهى عنه، واشتغالك، واتصاف نفسك، بما تأمر به غيرك، ومنْ لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به: ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه، والمنكر الذي يجب النهي عنه: ما يشغل العبد عن الله.
ثم قال: وقوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ: تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقِّ امْتُحِنَ في الله، فسبيله أن يصبرَ في الله، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله.
ثم قال: قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تتكبرْ عليهم، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك. ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه لا يتكبرُ ولا يتطاول، بل يتخاضع ويتضاءل. قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ.. الآية، أي: كُنْ فانياً عن شواهدك، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك. وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خُمَارِ غفلتك، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: في الإشارة: أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق. وقالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. هـ. أي: يتكلم على الناس، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بالنعم، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
(1) راجع إشارة الآيات: 126- 128 من سورة النحل.
(2)
الآية 108 من سورة طه.
يقول الحق جل جلاله: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ، يعني: الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وغير ذلك، وَما فِي الْأَرْضِ، يعني: البحار، والأنهار، والأشجار، والثمار، والدواب، والمعادن، وغير ذلك، وَأَسْبَغَ: أتم عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ، بالجمع، والإفراد إرادة الجنس. والنعمة: ما يسر به الإنسان ويتلذذ به، حال كونها ظاهِرَةً ما تدرك بالحس، وَباطِنَةً ما تدرك بالعلم والوجدان.
فقيل: الظاهرة: السمع، والبصر، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة: القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك.
أو: الظاهرة: الصحة، والعافية، والكفاية والباطنة: الإيمان، واليقين، والعلم، والمعرفة بالله، وسيأتي في الإشارة بقيتها.
رُوِي أن موسى عليه السلام قال: دُلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم: النَّفسُ. هـ.
قلت: إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً ما ربحنا إلا منها. هـ. وقيل: الظاهرة: تحسين الخلْق، والباطنة: حُسْنُ الخلقُ.
وقال ابن عباس: الظاهرة: ما سوى من خلقك، والباطنة: ما ستر من عيوبك.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بعد هذه النعم المتواترة، أي: في توحيده وصفاته ودينه، بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل ولا برهان، وَلا هُدىً اي: هداية رسول، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله الله، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت في النضر بن الحارث. وقد تقدمت في الحج «1» .
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله من التوحيد، والشرائع، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد في الأصول. قاله البيضاوي قلت: والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح. وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينظر، فهو مؤمن، اتفاقا. قال تعالى: أَوَلَوْ أيتبعونهم، ولو كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، يحتمل أن يكون الضمير لهم، أي: أيقلدونهم، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب، أو: لآبائهم، أي: أيتبعون آباءهم، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
الإشارة: الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان، وأنت خُلِقْتَ للحضرة، فاعرف قَدْرَكَ، ولا تتعدّ طورك، واشكر النعم التي أسبغ عليك ظاهرة وباطنة. الظاهرة: استقامة الظواهر في عمل الشرائع، والباطنة: تصفية البواطن لتتهيأ لأنوار الحقائق، أو: الظاهرة: المنن، والباطنة: المحن. قال القشيري: قد تكلموا فى الظاهرة والباطنة وأكثروا.
(1) راجع تفسير الآية 8 من سورة الحج (3/ 515) .