الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: (ولا تأخذكم..) إلى آخر ما تقدم. وقيل: المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة: جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها، أو رضي فعلها، فهو شريك الفاعل في الوزر، أو أعظم. وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب، أو أعظم. وفي الأثر:«الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه» «1» .
قال القشيري: حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. هـ. ومن هذا القبيل:
تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
ثم إن أنوار الشريعة، وهى أحكام المعاملة الظاهرة، تهدى إلى أنوار الطريقة، وهى أحكام المعاملة الباطنة، وأنوار الطريقة تهدى إلى أنوار الحقيقة، وأنوار الحقيقة تصيّر الكون كلّه نورا، كما قال تعالى:
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
يقول الحق جل جلاله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: منور أهلهما [بنور الإسلام والإيمان لأهل الإيمان]«2» ، وبنور الإحسان لأهل الإحسان، فحقيقة النور: هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا: المعنوية بدليل قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ، فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى: نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى: نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى: نور الإحسان. فالأول: يشبه نور النجوم، والثاني:
نور القمر، والثالث: نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية: نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان.
(1) أخرجه البزار (كشف الأستار ح 154) عن ابن مسعود، و (ح 1951) عن أنس، وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 384) من حديث سهل بن سعد. وجاء فى صحيح مسلم:«من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» . أخرجه مسلم فى (الإمارة، باب فضل إعانة الغازي، 3/ 1506 ح 1893) من حديث أبى مسعود البدري.
(2)
أرى أن تكون العبارة هكذا [بنور الإسلام لأهل الإسلام، وبنور الإيمان لأهل الإيمان] .
ثم ضرب المثل لذلك النور، حين يقذفه في قلب المؤمن، فقال: مَثَلُ نُورِهِ أي: صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن- كما هي قراءة ابن مسعود- كَمِشْكاةٍ أي: كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً، فيكون أزهر وأنور، فِيها مِصْباحٌ أي: سراج ضخم ثاقب، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي: في قنديل من زجاج صافٍ أزهر، الزُّجاجَةُ من شدة صفائها كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بضم الدال وتشديد الراء، منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمز:«أبو عمرو» على أنه يدْرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز: أبو بكر وحمزة، شبهه بأحد الكواكب الدراري، كالمشتري والزهرة ونحوهما.
تَوَقَدُ «1» بالتخفيف والتأنيث، أي: الزجاجة، أو يُوقَدُ بالتخفيف والغيب، أو: تَوَقَّدَ بالتشديد، أي:
المصباح مِنْ شَجَرَةٍ أي: من زيت شجرة الزيتون، أي: رويت فتيلته من زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة المنافع، أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل: بارك فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم عليه السلام.
زَيْتُونَةٍ: بدلٌ من شَجَرَةٍ، من نعتها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي: ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أنضر لها، وأجود لزيتونها. وقيل: ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً. نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قَلبِ المؤمن فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة. يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها. نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام،
(1) قرأ نافع، وابن عامر، وحفص، بياء من تحت مضمومة، مع إسكان الواو، وتخفيف القاف، ورفع الدال، على التذكير، مبنيا للمفعول من «أوقد» أي: المصباح. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب، بتاء من فوق، وفتح الواو والدال، وتشديد القاف، على وزن «تفعل» فعلا ماضيا، فيه ضمير يعود على المصباح. وقرأ أبو بكر، وحمزة، والكسائي، بالتاء من فوق، مضمومة، وإسكان الواو، وتخفيف القاف، ورفع الدال، على التأنيث، مضارع «أوقد» مبنى على المفعول. ونائب الفاعل ضمير يعود على «زجاجة» . انظر الإتحاف (2/ 298) .
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لهذا النور الباهر مَنْ يَشاءُ من عباده إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريباً للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، معقولاً كان أو محسوساً، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها: الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال: مَثَلُ نُورِهِ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ أي: كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
…
.. إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
وقوله تعالى: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل: الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور ملكوته على نور جبروته، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، مَنْ يَشاءُ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحِكَم:«الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته» ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله:(أو كظلمات..) إلخ.
وفي الحِكَم. «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار» «1» . فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه:
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 32 حكمة 14) .