الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قيل: هو الشرك. فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، أي: كُبوا فيها على وجوههم منكوسين. ويقال لهم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الشرك والمعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول، فليكن قلبه معموراً بالله، ليس فيه غير مولاه، ولا مقصود له في الدارين إلا الله، وظاهره معموراً بطاعة الله، متمسكاً بسنة رسول الله، هواه تابع لما جاء به مِن عند الله، لا شهوة له إلا ما يقضي عليه مولاه، فبهذا ينخرط في سلك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين سبقت لهم الحسنى، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه، آمين.
وقوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً
…
الآية. كذلك قلوب الراسخين في العلم بالله، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية، بل تهزهم في الباطن، وظواهرهم ساكنة، كالجبال الراسية، قيل للجنيد: قد كنت تتواجدُ عند السماع، والآن لا يتحرك فيك شيء؟ فتلى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ.
وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي: بالخصلة الحسنة، وهي المعرفة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وهو دوام النظرة والحبرة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ هي الجهل بالله، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين. والعياذ بالله.
ولما بلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره الله من بيان عواقب الأمور، تبرأ منهم، فقال:
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
يقول الحق جل جلاله: قل لكفار قريش، بعد تبيين أحوال المبعث، وشرح أحوال القيامة، بما لا مزيد عليه: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي: مكة، أي: إنما أمرني ربي أن أعبده، وأستغرق أوقاتي في مراقبته ومشاهدته، غير مبالٍ بكم، ضللتم أم رشِدتم، وما عليّ إلا البلاغ، وقد بلغتكم وأنذرتكم. وتخصيص مكة
بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها، الَّذِي حَرَّمَها أي: جعلها حرماً آمناً، يأمن الملتجأ إليها، ولا يختلي خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفّر صيدها. والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف، وتعظيم إثر تعظيم، مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها، وأنهم مُكلفون بذلك، كما في قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» . ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها، ألا يُرى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها، ويلحد فيها بإثم، قد استمروا فيها على تعاطي أفجر الفجور، وأشنع الإلحاد، حيث تركوا عبادة ربها، ونصبوا الأوثان، وعكفوا على عبادتها، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. قاله أبو السعود.
ثم قال تعالى: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقاً وملكاً وتصرفاً، من غير أن يشاركه أحد في شيء من ذلك، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على إن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين له، الثابتين على ما كنا عليه، من ملة الإسلام والتوحيد. الذين أسلموا وجوههم له تعالى، وانقادوا إليه بالكلية.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي: أُواظب على تلاوته، لتنكشف حقائقه الرائقة، المخزونة فى تضاغيفه، شيئاً فشيئاً.
أو: على تلاوته على الناس بطريق تكرير الدعوة، وتثنية الإرشاد، فيكون ذلك تنبيهاً على كفايته في الهداية والإرشاد، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: فمن اهتدى بالإيمان به، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، فإنما منافع هدايته عائدة إليه، لا إلى غيره. وَمَنْ ضَلَّ بالكفر به، والإعراض عن العمل بما فيه فَقُلْ في حقه: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقد خرجتُ من عهدة الإنذار، فليس عليَّ من وبال ضلالته شيء. قال الصفاقسي: جواب «من» : محذوف، يدل عليه ما قبله، أي: فوبال ضلاله عليه، أو: يكون الجواب: «فقل» ، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط لأنه اسم غير ظرف، أي: من المنذرين له. هـ.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أفاض عليّ من نعمائه، التي أجلُها نعمة النبوة، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى، بالآيات البينة والبراهين النيرة، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ قطعاً في الدنيا، التي وعدكم بها، كخروج الدابة وسائر الأشراط، فَتَعْرِفُونَها أي: فتعرفون أنها آيات
(1) الآيتان: 3- 4 من سورة قريش.
الله، حين لا تنفعكم المعرفة، أو: سيضطركم إلى معرفة آياته، والإقرار بأنها آيات الله حين ظهورها، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، بل محيط بعمل المهتدي والضال، غير غافل، فيجازي كلا بما يستحقه.
وتخصيص الخطاب أولاً به- عليه الصلاة والسلام وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً، أي: وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم- أيها الكفرة- من السيئات، فيجازي كلاً بعمله. ومن قرأ بالغيب «1» فهو وعيد محض، أي: وما ربك بغافل عن أعمالهم، فسيعذبهم ألبتة، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم، بل يُمهل ولا يهمل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره، أو: العالم من تدريسه وتعليمه، أقبل على عبادة ربه، إما عبادة الجوارح الظاهرة، من صلاة وذكر وتلاوة، أو عبادة القلوب، كتفكر واعتبار، أو استخراج علوم وحكم ودُرر.
وإما عبادة الأرواح، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار. وهذه عبادة الفحول من الرجال، فمن اهتدى إليها فلنفسه، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين. والحمد لله رب العالمين- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
(1) قرأ حفص، ونافع، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب (تعملون) بتاء الخطاب. وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 337) .