الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما لم يفتح. وذكر فى هذا الكتاب أشياء ملاح، تصل إلى العقل وتقبلها الطباع السالمة، تدلّ على تمكّن صاحبها من علوم كثيرة.
ورمز فى كتابه هذا رموزا لا يصل إلى حلّها إلاّ كل ذهن رائق وفكرة قادحة، ولعلّ جميع ما ذكره صحيح والله أعلم.
فمن جملة ما ذكر أنّ هذه الكنوز مختصة بصور، لا يفتح ذلك الكنز إلا تلك الصورة ولو اجتمع عليه أهل الأرض. فإذا حصل ذلك الشخص صاحب تلك الصورة إلى ذلك الكنز فتح له من غير كدّ ولا تعب. وذكر كلام كثير من الفلك وأحواله يؤيّد ما برهن عنه، أضربت عن جميع ذلك، إذ لا حاجة لنا فيه فى هذا التاريخ، وليس المقصود إلاّ بما يتعلّق بذكر الحاكم العبيدى وما فتح فى زمانه من هذه الكنوز.
كنز الدبّ
قال محمد بن عبد الرزاق فى كتابه المعرف «بحلّ الرموز فى علم الكنوز» : إنّه كان بمصر فى خلافة الحاكم العبيدى شخص يسمّى وردان جزارا، وكانت تأتيه فى كلّ يوم امرأة حسنة فتصبّحه وتعطيه
دينارين ذهب عدد، وتأخذ منه خروف وتأمره أن يشقّه شقتين، وتأتى بحمّال يحمله على قفصه وتنصرف. فأقامت على ذلك برهة من الزمان. فأفكر ذات يوم وردان فى حال تلك المره، وكشف ذلك الذهب الذى اجتمع عنده منها فوجده جميعه ضرب عتيق لا يفهم ما عليه. فاختلج فى باطنه منها أنها (ص 181) واصلة لا محالة. فاجتمع بذلك الحمّال الذى يحمل معها الخروف وسأله عن أمرها. فقال: والله يا معلم بأرى من هذه المرأة العجب، وذلك أنها لما تحمّلنى من عندك الخروف اللحم تأتى بى إلى إنسان راهب بقصر الشمع فتعطيه دينارين وتأخذ منه مروقتين خمر، وتعطيه دينارا آخر فيزن لها عشرين درهم، فتتحوّج بعشرة الدراهم <من> فاكهة ونقل وشمع وخبز قليل وحوايج طعام ما بين خضر وأبزار وحطب وتحمّلنى جميع ذلك إلى طرف بساتين الوزير من ناحية الجبل.
فتشدّ عينىّ بعصابتين شد جيد وتقبض بيدى وتمشى بى تقدير ساعة فلكّية فى حوادث وعرة، وأضع القفص على صخرة
كبيرة وآخذ من هناك قفص فارغ، وتعود بى إلى المكان <الذى> شدّت فيه عينىّ. فتحلّ العصايب وتعطينى العشرة الدراهم وتقول لى:
لا تقطع رزقك بيدك. فلما سمع وردان ذلك تحقّق عنده أنها واصلة بلا خلاف. فقال للحمّال: يا أخى والله لقد صدقتك بالله، لا تقطع رزقك بيدك، فنحن بنكسب عليها ما بنغرم. فأمسك ما معك.
ثم إن وردان تجهّز لها إلى حين ما حضرت إليه وأخذت الخروف اللحم على عادتها وانصرفت. فأوقف وردان صبيّه مكانه وتبعها بحيث احترز كلّ الاحتراز من أن تشعر به إلى حيث قضت سائر حالها، وخرجت من مصر وهو يتبعها محترزا، حتى إذا شدّت عينى الحمال وقادته وهو يتبعهما، حتى وصلت به إلى تلك الصخرة. فتوارى وردان خلف صخرة أخرى حتى أوصلت الحمّال إلى مكانه، وعادت فنقلت جميع ما كان فى القفص وانقطع خبرها. فوثب وردان إلى (ص 182) تلك الصخرة التى كان عليها القفص فوجد إلى جانبها طابق بسرداب بدرج نازلة. فنزل فيهم إلى دهليز مظلم، وفى آخره ضوء ظاهر.
فمشى حتى وصل إلى ذلك الضوء، فوجد على يمينه باب قاعة نيّرة، مليحة لا يعلم من أين يأتيها ذلك النور. فجلس فى حدّ الباب فى تلك الظلمة ينظر إلى صدر القاعة، فإذا فى صدر القاعة دبّ أسود كأنّه
بعير من عظم خلقه، والمرأة قد أخذت شقة ذلك الخروف قطعت منها أطايبها تقدير أربعة أرطال، وأرمت بقية الشقّة لذلك الدبّ. فبرك عليها حتى أتى على آخرها، وصار يكسر فى ذلك العظم بأنيابه كأنها أصاطير. ثم إن تلك المرأة علّقت قدرة وطبخت ذلك اللحم الذى قطعته من تلك الشقة التى أرمتها للدب، بعد ما علّقت الشقة الأخرى فى كلاّب معلّق تحت مكان تلعب فيه الريح، لا يعلم من أين تأتى.
فلما استوى طعامها غرفته فى زبادى مينا لا يقدر على مثلها، ثم أكلت كفايتها ورفعت الباقى، ثم مدّت تلك الفاكهة والنقل، وصبّت من ذلك الخمر فى أوانى بلّور مجزّع وجوهر تأخذ بالبصر، ثم شربت وعادت تسقى ذلك الدبّ وهو يكرع كلّ ما تسقيه، حتى أتت على المروقة الواحدة. فنهضت ونزعت سراويلها وانقلبت، وقام إليها ذلك الدبّ ينكحها الواحد ثم يثب ويعلودها، ثم يثب ويعاودها عدة عشرة على طلق واحد، وعاد له ولها شخيرا حتى أقلب المكان ووقع من عليها كالميت، وكذلك هى أيضا.
قال وردان: ما قعادى؟ ما هو إلا أن يستفيق هذا الدبّ ويرانى فيبضعنى بضعا. فجذب من وسطه سكين (ص 183) تبرى العظم قبل اللحم، و <هو> جزار عارف بالدبيحة، ومسك منحر الدّب، وجرّ عليه السكين، فخلّص رأسه عن بدنه، فشخر الدبّ كالرأس البقر
وأعظم. فاستيقظت المرأة على حسّ شخيره كالمجنونة، فنظرت وردان قايم على جثة الدبّ وفى يده السكين، ونظرت الدب وقد زالت رأسه عن بدنه. فصرخت صرخة كادت نفسها تفيض وقالت:
وردان عملتها ولا بدّ؟ فقال لها وردان: يا عاهرة! وما حملك على هذا الحراف، فرغت الرجال من الدنيا؟ فقالت: يا وردان هذا هو المكتوب والكائن المقدّر. وقد انتهى أجلى فاذبحنى كما ذبحت هذا الدبّ، فما بقى لى بعدها حياة فى الدنيا. فقال وردان: خافى الله عز وجل وتوبى إليه، وأنا أتزوجك فى الحلال ونعيش بقية عمرنا فى هذا الكنز، ويردّ الله عاقبتك إلى خير. فقالت: يا وردان لا تتعب واذبحنى ولا تطيل (كذا)، فلو أنّ غيرك من ساير خلق الله تعالى لما قدر أن يصل إلى هاهنا، ومتى لم تفعل ما أمرتك به أتلفتك، وإن فعلت نجوت بنفسك وبجميع ما فى هذا الكنز.
فقلت: وما فى قدرتك أن تفعليه بى؟ فنهضت إلى صحن فى وسط المكان فيه قليل ماء. قال: فتكلمت عليه، ففار الماء من ساير أجناب المكان، وصار فى لحظة إلى الخلخال. فقالت: وردان أدرك نفسك واذبحنى كما أمرتك وإلاّ هلكت بالغرق.
فقال وردان: أمسكى أيتها المرأة فأنا فاعل ما تأمرين.
قال: فتكلّمت فعاد الماء إلى ما كان عليه. وقالت: هيه وردان. افعل بى كما فعلت بالدبّ. فعندها مسكت بذوآئبها وذبحتها وتركتها إلى جانب الدّب.
ثم إنه أخذ من ذلك الدرّ والجوهر والذهب طاقة (ص 184) حمله، وجعله فى القفص الذى للحمّال، وغطّاه بخلقانه، وطلب الطريق. فلمّا صار بباب مصر إذ وثب له عشرة حرسيّة وقالوا له:
وردان لا تروّع، بل أجب الحاكم. وأحضروه إلى بين يدى الحاكم، فلما رآه قال له: وردان ذبحت الدبّ والعاهرة؟ فبهت وردان لذلك وقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أرينى قفصك. فنظره ثم غطّاه بما كان عليه، وقال: يا وردان هذا القفص نصيبك لا يعارضك فيه معارض، وإنما توجّه معى وسلّمنى الكنز.
ثم إنه ركب حماره وتوجّه معه إلى الكنز. فقال: يا أمير المؤمنين! انزل لتراه وتنظر إلى هول خلقة هذا الدبّ. فقال الحاكم: هيهات يا وردان! إنّك لا عدت تنظر لا الدبّ ولا المرأة، وهما كانا قربان هذا الكنز حتى تسهّل عليك الأخذ منه، وهو كان فتحه على صورتك، ولا يطيق ينزل له غيرك. انزل الآن واطلع لى بجميع ما فيه، ولا تتعرّض لصاحب السرير. قال وردان: فنزلت فلم أجد لا للدبّ ولا للمرأة أثرا ولا دما.
ثم إنّ وردان نقل منه ما كان فيه من الذخاير والجواهر والأموال.
فتسلّم جميع ذلك الحاكم، ونقله إلى رصده المطلّ على بركة الحبوش، وودعه هناك فى كنز صنعه الحاكم، وزير عليه بحكمته، وهو باق بالمرصد، والله أعلم.
ثم إنّه أعطى وردان ذلك القفص، وأمر أن لا يعارضه فيه معارض. فبنى منه وردان جميع هذه الدكاكين المعروفة بسوق وردان بمصر. والله أعلم.
انتهى القول فى أخبار الحاكم. ولنتبع ذلك بما قيل فيه من المدايح حسبما اشترطنا.