الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة أربع وستين وثلاث مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ما لخّص من الحوادث
ذكر خلافة الطّائع لله ابن المطيع لله وما لخّص من أخباره وسيرته.
هو أبو بكر عبد الكريم الطائع لله بن أبى العبّاس الفضل المطيع الله وباقى نسبه قد تقدم.
أمّه أمّ ولد يقال لها عتب.
بويع له فى (ص 108) يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة. ولم يزل خليفة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر، إلى أن خلع فى تاريخ ما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى.
كان مدبّر الملك فى أول خلافته عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة، إلى أن غلبه ابن عمّه أبو شجاع فنا خسرو الملقّب بعضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه فى هذه السنة. واستمرّ فى الملك إلى أن مات فى ثامن شوال سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة.
وولى الملك بعده ولده صمصام الدولة أبو كاليجار.
ثم قبض عليه وسمل.
وولى بعده أخوه شرف الدولة أبو الفوارس إلى أن توفى.
فولى أخوه بهاء الدولة أبو نصر. وهو الذى قبض على الإمام المطيع وخلعه فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
والمعزّ لدين الله بالديار المصرية.
وابن كلّس الوزير بها.
وابن النعمان القاضى بالقاهرة.
وأبو طاهر القاضى بمصر.
وكان المعزّ قد أخفى نفسه أربعين يوما بعد ما جعل له فى بيت كلّ كبير ورئيس من أهل مصر عينا من جهته يخبروه بما يتجدّد لذلك الرجل فى بيته من سائر أحواله.
ثم ظهر لهم وقال لهم: إنّنى رفعت إلى السماء الدنيا، وكنت أشاهد جميع ما صنعتم. وذكر لكلّ واحد ما فعله. فمنهم من صدّق زعمه، والعقلاء من الناس راءوه فى الظاهر وكفّروه فى الباطن.
وكانت له أشياء من هذه الخزعبلات يرجع إليها أولى العقول الناقصة، وينكرها أصحاب العقول الوافرة.
هذا ودمشق فى أسوأ الأحوال. وقد ملكوهم المغاربة بعد حرب شديد تجرّت فيه الشطّار والمشالح والحراميّة، ولم يبق لأهل دمشق مع الطائفتين لا مال ولا حريم ولا روح. والناس (ص 109) تحت رحمة الله تعالى. وجرت أمور يطول شرحها.
وكان كبير الشطّار بدمشق يعرف بابن الماورد، وقد التفّ عليه جماعة من نظرائه.
ثم إنّ قوما من مشايخ دمشق خرجوا إلى أبى محمود وتضرّعوا له وعرّفوه ما الناس فيه من البلاء والجور. وكان قد ولى الشرطة بدمشق رجل مغربى يعرف بابن حمزة. ففعل كلّ قبيح فى البلد. فصرفه عن البلد وولّى رجل كردى يقال له أبو الثريا. ومعه جماعة من الأكراد يرمون بالنشّاب. وقرّر معه مسك ابن الماورد رأس الشطّار.
وكان ذلك فى شهر صفر من هذه السنة. وبلغ ابن الماورد ذلك فكمن هو وأصحابه فى الدكاكين التى عند فندق ابن زكريا. فلما وصل إلى هناك ذلك الرجل الكردى المسمّى بأبى الثريّا وثب عليه ابن الماورد مع أصحابه، فوضعوا على أصحاب أبى الثريّا القتل. فولّوا منهزمين، وكذلك هو نفسه، وخرج إلى أبى محمود وعرّفه، فكانت بعد ذلك
حروب وقتال شديد بين المغاربة وأهل دمشق وعاد الحاكم فى دمشق الشاطر ابن الماورد. وجرت أحوال يطول الكلام فيها.
وكان لمّا جرت الفتن أيضا ببغداد بين بنى بويه وبين سبكتكين الحاجب، وكانت الأتراك تتعصّب مع سبكتكين يجمعهم على ذلك الجنسية، وغلب على بغداد وأخرج بختيار منها قهرا، وانتصر بختيار بابن عمّه عضد الدولة، وحضر إليه فى الديالمة، وخرج المطيع لله مع سبكتكين، وكان قد ولاّه تدبير الملك ولقّبه نصير الدولة وطوّقه وسوّره، ثم قهر سبكتكين وقتل، وخلع المطيع، وتولّ الطائع حسبما تقدم.
وكان سبكتكين قد أقام خليفته على الأتراك هفتكين الشرابىّ وكان فيه شجاعة وشدّة وبأس (ص 110). فلما انتصرت الديلم على الأتراك تشتت شملهم، فأخذ قوم منهم نحو أبى تغلب بن حمدان إلى الموصل فاستأمنوا إليه، وقوم منهم استأمنوا إلى عضد الدولة فناخسرو. وبقى هفتكين فى نحو من أربع مئة فارس من الأتراك، وهم شجعانهم. فأخذ على الفرات حتى نزل الرحبة، ثم انتقل فى البرّ حتى نزل على جوسية. وكان يسايره فى البرّ خلق كثير من العرب طمعا فى أخذه، فكان فيه من الضبط واليقظة والشجاعة والهيبة ما لم يجسر عليه أحد.
وكان ظالم أيضا لمّا رأى تغلّب المغاربة على دمشق قد انزوى فى بعلبكّ، فى حديث طويل. فبلغه خبر الهفتكين التركىّ. فطمع فى أخذه. فجمع إليه من انضوى من العرب. وأنفذ إلى أبى محمود بدمشق يقول له: إنّ تركيّا قد جاء من بغداد وهو يريد عملك.
فأنفذ إلىّ عسكرا حتى آخذه به من قبل أن يدخل عملك. فأنفذ إليه أبو محمود عسكرا. فاجتمع له نحو من ألفين فارس. فسار بعضهم إليه بخبر الأتراك ونزولهم جوسية، وسار ظالم إلى قرب منه.
ولبس هفتكين وأصحابه الحديد وتطرّحوا على خيلهم التجافيف. فلمّا وقعت عينهم عليهم أرموا عليهم النشّاب. وكان قد وصل إلى هفتكين التركىّ من جهة أبى تغلب بن حمدان بشارة الخادم فى ثلاث مئة رجل، بكلام لطيف من جهة ابن حمدان. فوصل إليه وقد صفّ خيله لظالم العقيلى. فلما رآه فى زىّ حسن ظنّ أنّه ابن حمدان نفسه. فتلقّاه.
فكان بينهما (ص 111) كلام حسن. وأوعده عن الأمير أبى تغلب بكلّ جميل. وأنفذ بشارة من وقته رسولا إلى ظالم يقول له: لا تفسد فى عملنا ولا تدخله. فقال: ما جئت لأفسد فى عملكم، وإنما جيت من أجل هذا التركىّ لأصدّه. فردّ عليه: هذا رجل فى عملنا، وإلينا قصد، ونحن ما نتخلّى عنه. ونظر ظالم إلى جماعة هفتكين وما هم عليه
من الشدّة والبأس والحديد وقد انضمّ بشارة فى تلك العدّة. فانقطع طمعه ورجع طالب بعلبكّ.
ثم إنّ بشارة الخادم أخذ هفتكين التركى وأتى به إلى أبى تغلب ابن حمدان فأقبل عليه وأقطعه المعرّات وكفر طاب، وأن يكون تبعا لأبى تغلب. فلم يلبث هفتكين أن ورد عليه رسول ابن الماورد رأس الشطّار بدمشق يقول له: تسير إلينا، فنخرج نحن من داخل البلد، وأنت من خارج على المغاربة وتملك البلد. فوقع ذلك الكلام بالموافقة لغرض هفتكين.
وكان لما بلغ المعزّ أحوال دمشق مع أبى محمود قد سيّر إلى نائبه بطرابلس يسمى ريّان الخادم يقول له: تتوجه إلى دمشق وتعزل عنها أبى محمود، وتأمره أن يكون بطرابلس. فلما وصل هفتكين إلى دمشق لم يجد بها أحدا من المغاربة.
وكان قد وردت الأخبار أن العدوّ من الروم وهو ابن الشمشقيق وهو يومئذ دمستق الرّوم، قد خرج يريد البلاد. ووصل هفتكين إلى ظاهر دمشق.
وذلك لأيّام بقيت من شعبان من هذه السنة، وهى سنة أربع وستين وثلاث مئة.
ونزل حول مسجد إبراهيم. وخرج إليه الناس واستبشروا به، وكذلك ابن الماورد، وأخرجوا له الإقامة والعلوفات، وفرحوا به لإزاحة المغاربة عنهم.
وأقام هفتكين أيّاما بدمشق. وشاع خبر العدو. ووصل بعلبك جيوش الروم وافتتحتها. وأخذ أهلها أسرى. فلما بلغ هفتكين الخبر وعلم أنه لا قبل له بجيوش الروم أحسن التدبير والسياسة، واجتمع بالدمستق وعرّفه أنّ دمشق بلد خراب من المغاربة وإنما له بها أيام قليلة. وأحسن الكلام والتلطّف. فأعجب الدمستق أدبه ومخاطبته، وقرّر مال يأخذه، ولا يتعرّض لأهل دمشق. فكان ذلك. وأقام الدمستق على دمشق أيّاما من غير أن وصلت منه أذية لأهلها، حتى جبى له ثلاثون ألف دينار، فأخذها وترك الباقى لهفتكين، وعاهده وهادنه. فأعجب ذلك أهل دمشق من فعل هفتكين وحسن سياسته.
ورحل الدمستق ونزل بيروت. وكان بها خادم من جهة المغاربة يقال له نصير فى سبع مئة رجل من المغاربة. فاستعدّوا للقتال على الأسوار. فلما عاينوا كثرة جيش الروم علموا أن لا طاقة لهم بذلك.
فراسلهم الدمستق: إنى لا أحبّ خراب بلدكم، ولا أريد قتالكم، وإنّما أريد أن تسلّموا إلىّ هذا الخادم ومن معه، وأجعل عندكم من جهتى ذروار يكون يدفع عنكم من يطمع فيكم. فوجد الخادم ومن معه فى ذلك فرجا كبيرا يمنعهم القتل. فنزل إليه الخادم من ذاته وجميع من معه. وتسلّم الدمستق البلد وجعل فيها ذروارا من قبله. وسار عن بيروت فنزل على طرابلس، وكان بها ريّان الخادم المقدّم ذكره الذى أخذ أبو محمود من على دمشق، وهو يومئذ فى خلق كثير من المغاربة.
فقاتلوا أشدّ قتال. فعمل على أن يبنى حولها ويرفع عليها العرّادات والمناجيق، وابتدأ فى البناية. فلحقته علّة، فرحل عنها إلى بلده، فهلك فى الطريق.
ولما تمكّن هفتكين من دمشق وكان قد نمّ (ص 113) على ابن الماورد عند ملك الروم وقال هذا الذى لا يمكّنى من جباية مالك، فقبض عليه الدمستق واستصحبه معه فى حديث طويل أيضا هذا ملخصه.
فلما صفا أمر دمشق للهفتكين نفذ شبل بن معروف نحو طبرية.
فهرب من كان بها من المغاربة إلى الرملة، وقائدهم أبو محمود. فسارت العرب تطلب الأعمال، واجتمعوا وكثروا، وكان معهم رجالا من
جهة هفتكين معونة لشبل بن معروف العقيلى. وكانت المغاربة أيضا قد التقوا وتجمعوا، فالتقوا بأرض بيت المقدس. فظهرت على المغاربة، فانهزموا، وأخذهم السيف فقتل منهم خلق كثير، وأخذ من ظفر به فسيّروه إلى دمشق فطوّفوهم فى الأسواق على الجمال وملّوا منهم الحبوس، ثم ضربوا أرقاب كثير منهم والله أعلم.