الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
يتضمن ذكر هذه الدعوة الخبيثة وهى تسع
الدعوة الأولى:
اعلم أنّ أوّل هذه الدعوة الملعونة بعد عمل الداعى بالزرق والمآتم وقوة إجابة المدعو من سائر الأمم أنّ أوّل ما يسلك به فى السؤال عن المشكلات مسلك الملحدين والشكّاك. ويكثر السؤال عن تأويل الآيات ومعانى الأمور الشرعيّات، وشئ من الطبائع، ووجوه القول فى الأمور التى يكثر فيها الشبه ولا يصل إليها إلاّ العالم المبرّز. فإن اتفق له عالم مجيب ممارس جدل سلّم إليه الداعى وعظّمه وكرّمه وحشّمه وصوّب قوله وداخله فيما يحب من أمر الشريعة التى يومى إليها. وكل ذلك ليقطع كلامه، لئلا يبين له ما هو عليه من المكر والخديعة، وما يدخل به على غيره من الجهّال من أمر الدعوة الخبيثة. وإن اتفق مغرور-وهم الأكثرون من الناس من المغفّلين الغليظين الحواس، ألقى إليه ما يشغله ويبليه بالفكر فيه، مثل قوله: إنّ الدين لمكتوم، وإنّ الأكثر له منكرون وبه جاهلون. ولو علمت هذه الأمّة ما اختصّها الله عز وجل من العلم لم تختلف. ويوهم من سمع كلامه أنّ عنده علوما
خفيّة لم يصل إليها. فتطّلع نفسه إلى معرفة بيان ما قال. فربّما وصل أمره مع من يجالسه واحدا كان أو جماعة بشئ من معانى القرآن، وذكر شرائع الدين من تأويل وتنزيل وكلام لا يشكّ المسلم العارف فى حقيقته، ويوهم المستمعين منه أنه قد ظفر بعلم، لو صادف له مسمعا لكان ناجيا منتفعا. ويقرّر عندهم أن الآفة التى نزلت بالأمة وحيرت؟ (ص 68) فى الديانة وشتّت الكلمة وأورثت الأهواء المضلة ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم وأقيموا حافظين لشرائعهم، يؤدّونها على حقائقها ويحفظون عليهم معانيها وبواطنها، وأنهم لما عدلوا عنهم ونظروا من تلقآء عقولهم، واتباعهم لما حسن فى رأيهم وسمعوه من أسلافهم وعلمائهم، تباع الملوك فى طلب الدنيا وحاملى العنا ومتبعى الإثم وأحشاد الظلمة وأعوان الفسقة، الطالبين العاجلة، والمجتهدين فى الرياسة على الضعفاء، ومن عاند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمته، وغيّر كتابه، وبدّل سنته، وقتل عترته، وخالف دعوته، وأفسد شريعته، وسلك بالناس غير طريقته، وعاند الخلفاء من بعده، وخلط بين حقه وباطل غيره، فتحيّر وحيّر من قبل منه، وصار الناس إلى أنواع الضلالات به وبأتباعه.
وقالوا لهم حينئذ كالنصحاء الحكماء: إنّ دين محمد صلى الله عليه وسلم لم يأت بالتحلّى ولا بالتمرّى، ولا بأمانى الرجال ولا شهوات الخلق،
ولا بما خفّ على الألسنة وعرفته دهماء العامة. وإنما الدين صعب مستصعب، وأمر مستثقل، وعلم خفىّ غامض ستره فى حجّته، وعظّم شأنه عن ابتذال الأسرار له، فهو سرّ الله عز وجل المكتوم وأمره المستور الذى لا يطيق حمله ولا ينهض بأعبائه وثقله، إلاّ ملك مقرّب، أو نبى مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
فى أمثال هذا الكلام. وتمويه على من لا يعلم بأنهم لو أظهروا ما عندهم من العلم لأنكره من يسمعه ويعجب منه، وكفّر أهله. وهذه تقدمة يجعلونها فى نفوس المخدوعين لهم ليواطؤونهم على أن لا ينكرون ما يسمعون منهم، ولا يدفعونه فيجعلوا (ص 69) ذلك تأنيسا وتأسيسا لينخلع من الشرائع وترتيب أصولها، ويقلع عن الحرص فى طلبها.
وربما قالوا لهم شيئا يموّهون به أن له تفسيرا وإنما هو تقليد فى الديانة. فمن مسائلهم: ما معنى رمى الجمار؟ وأعداده المحصورة فيه؟ والعدو بين الصفا والمروة؟ ولم قضت الحائض الصيام ولم تقض الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق لشئ طاهر منه البشر ولم يغتسل من البول النجس الكثير القذر؟ وما بال الله عز وجل خلق الدنيا فى ستة أيام، أعجز عن خلقها فى ساعة واحدة؟ وما الصراط المضروب فى القرآن مثلا؟ والكاتبين الحافظين؟ وما بالنا لا نراهما
أخاف ربنا لا نكابره ونجاده فأذكى العيون وأقام علينا الشهود وقيّد ذلك بالقرطاس والكتابة؟ وما تبديل الأرض غير الأرض؟ وما عذاب جهنم؟ وكيف يصحّ تبديل جلد يذهب بجلد لم يذهب ولم يذنب فيعذب؟ وما معنى ({يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ})؟ ولم لا كانوا أكثر أو أقل؟ وما ذكر الشياطين وما وصفوا به؟ وأين مستقرهم ومقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج؟ وما هاروت وماروت؟ وما سبعة أبواب النار؟ وما ثمانية أبواب الجنة؟ وما شجرة الزقّوم الثابتة فى الجحيم؟ وما دابة الأرض؟ وما رؤس الشياطين والشجرة الملعونة فى القرآن؟ وما {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ؟ وما {الْكُنَّسِ} ؟ وما {الْكَوْثَرَ} ؟ وما معنى {الم} ؟ و {المص} ؟ وما معنى {كهيعص} ؟ و {حم عسق} ؟ وأمثال هذه المسائل. ولم جعلت السموات سبعا والأرضون سبعا؟ والمثانى من القرآن سبع آيات؟ ولم فجّرت العيون اثنتى عشرة عينا؟ ولم جعلت (ص 70) الشهور اثنى عشر شهرا؟
وأمثال هذا من الكلام والأمور مما يوهمون أنّ فيه معانى غامضة وعلوما جليلة، وقالوا للمغرورين: ففكّروا أولا فى خلق أنفسكم،
وكيف صوّرها، وأين مستقرّها، وما أول أمرها؟ والآن ما هو وما حقيقته؟ وما فرّق من حياته وحياة البهائم. وفصل ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما بانت به الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلقت حوآء من ضلع آدم؟ وما معنى قول الفلاسفة: هو العالم الصغير؟ ولم جعلت قامة الإنسان منتصبة دون الحيوان؟ ولم جعل فى يديه عشر أصابع وفى رجليه عشر أصابع؟ ولم جعل فى أربع منها من يديه ثلاثة شقوق وفى الإبهام شقان؟ ولم جعل فى وجهه سبع ثقب وفى سائر بدنه ثقبان؟ ولم جعل فى ظهره اثنا عشر عقدة وفى عنقه سبع؟ ولم جعل رأسه فى صورة ميم، ويداه ح، وبطنه ميما أخرى، ورجلاه دالا، حتى صار ذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد؟ ولم جعلت أعداد عظامكم كذا وأسنانكم كذا؟ ولم صارت الرؤساء من أعضائكم كذا؟ وذكروا له شيئا من التشريح والقول فى العروق وفى الأعضاء ووجوه منافع الأعضاء.
ويقولون لهم: ألا تفكرون فى حالكم وتعتبرون، وتعلمون أنّ الذى خلقكم حكيم غير مجاذف، وأنه فعل جميع ذلك بحكمة، وله فى ذلك أغراض باطنة خفيّة، حتى جمع ما جمعه، وفرّق ما فرّقه. وكيف يسعكم الإعراض عن هذه الأمور وأنتم تسمعون قول الله تعالى ({وَفِي أَنْفُسِكُمْ}
{أَفَلا تُبْصِرُونَ} ) وقوله عز وجل ({وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ}) ويقول (ص 71): ({وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}) ويقول الله عز وجل ({سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}) فأىّ شئ رآه الكفار فى أنفسهم وفى الآفاق فعرفوا به الحق؟ وأىّ حقّ عرفه من جحد الديانة؟ أو لا يدلّكم على أنّ الله عز وجل أراد أن يدلّكم على بواطن الأمور الخفيّة وأمور باطنة؟ ولو عرفتموه لزالت عنكم كلّ حيرة وشبهة، وحصلت لكم المعارف السنيّة، لولا ترون أنكم جهلتم أنفسكم التى من جهلها كان حريّا بأن لا يعلم غيرها. أو ليس الله تعالى يقول ({وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}) وأمثال هذه الأمور مما يسئلون ويعترضون به من تأويل القرآن، وتفسير آيات كثيرة من ألفاظ السنن والأحكام. والجواب عن نصف معانى تفسيرها واضع الشرايع السمعيات فيما وقع منها وما نصب، وكثير من أبواب التعديل والتحوير مما يأتى فى المقالة الثانية إن شاء الله تعالى.
فإن أوجب ذلك المسئول عنه شكّا وحيرة واضطرابا، وتعّلقت نفسه بالجواب عنه فتشوّف إلى معرفته، فسألهم عنه، عاملوه بمثل ما يعامل به صاحب الفال والزرّاق والقصّاص على العوّام عند امتلاء صدورهم بما يفخمون به أولا عند هم من أحوال قد عرفوها من أحوالهم إلى معرفتها أكثر الحاجة وعلقوا بمعرفتها أنفسهم، وعند بلوغ القصاص إلى ما يبلغون إليه، يقطعون الحديث لتتعلّق قلوب المستمعين بما يكون بعده.
وهذه صفة هؤلآء الدعاة وحالهم: يقدّمون الكلام والمسائل، ثم يقطعون. فتتعلّق أنفس المغرورين بما قد أخّر من القول الذى قد قدموا له مقدمة. فإذا (ص 72) خاطبهم المغرور على علم معرفته وبيان ذلك قالوا له: لا تعجل. فإنّ دين الله عز وجل أجلّ وأكبر من أن يبذل لغير أهله، ويجعل غرضا للعب وما جانسه.
ويقولون: قد جرت سنة الله جلّ وعزّ فى عباده عند شرع من نصبه أن نأخذ العهد ممن يرشده ولذلك قال: ({وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً}).
وقال تعالى ({مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ.}
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} ).
وقال جلّ ذكره: ({يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}).
وقال تعالى: ({وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً}).
وفى أمثال هذا خبّر الله عز وجل أنه لم يملك حقه إلاّ لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك وعاهدنا بالتوكيد من إيمانك وعقودك أن لا تفشى لنا سرّا ولا تظاهر علينا عدوّا يطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا ولا توال لنا عدوّا.
وإنما غرضهم فى هذا كله أمور منها أن يستدلوا بظاهرها على ما يعطيهم المخدوع من الانقياد إليهم والطاعة لهم من باطن أمره دون شكّه واضطرابه، وكيف موقع ذلك منه وتمكنه.
ومنها التوثيق بالأمن من كشف أحوالهم وانتشار أمورهم إلاّ بعد توطئة ما يريدونه حالا فحالا.
ومنها أن يرسموه بالذلّ والطاعة لهم، والرضا منه بأن يكون منقادا تابعا ومعظّما لهم مكثرا. وإلاّ فإن نكث الأيمان وقلة الاكتراث بها والفكر فيها والاعتداد بأمرها هو دينهم عند البلوغ إلى غايتهم (ص 73) التى يجرون إليها ويبلغون فيها. وإنما يجعلون ذلك مانعا لأهل هذه الطبقات ما داموا مستشعرين للعمل بالديانات.
فإن سمح المدعو بإعطاء عهده وتصاغر لهم لقوّة اضطراب قلبه وشكّه قالوا له حينئذ: اعطنا جعلا من مالك وغرما نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إيّاها.
فكان ذلك أيضا مما يستظهرون به عليه من الاستدلال على قوة شكّه وتعلّق نفسه، وظهريا لهم على الاستعانة على أمرهم، وتمكينهم لدعوتهم، ثم وسموا له وسما بحسب ما يراه الداعى فى أمره صلاحا.
وإن امتنع عليهم المخدوع فى رتبة العهد وإعطاء الداعى رتبة الغرم وعطيتّه، أمسكوا عنه وزادوه أبدا فى شكّه وحيرته. فهذا حال الدعوة الأولى.
قال العبد المولّف لهذا التاريخ أبو بكر عبد الله غفر الله له:
قد اخترت الله تعالى وأضربت عن ذكر بقية المقالات، وهن ثمان بعد هذه المقالة، صيانة لكتابى، إذ لا أكتب بيدى ما صمّ له مسمعى واقشعرّ من هوله بدنى. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له،
له الدين وله الحمد يحيى ويميت، وإليه المصير. وهو على كلّ شئ قدير. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فإنّى رأيت أنّ كتابى هذا جامع لأخبار الناس، فلا أشوبه بشئ يكون فيه التباس، وهذه المقالة كافية، والقصد منها أن تفهم لئلا يقع غرّ ولا جاهل، ويتحقق أنّ هذه المسائل والوهبات جميعها ابتداء الشر فى دينه ودنياه. فيجب على من أهدى الله قلبه للإيمان إذا وقع بمن يخاطبه ويداخله بشئ هذا مبتدأه أن يتجنّبه (ص 74) ويتحقّق منه أنّ آخر أمره معه يؤول إلى التعطيل والإباحة نعوذ بالله منهما.
وهذه الطائفة لم تزل من أول زمان تحت الذلّ والخوف والوجل، تضرب أرقابهم، ويرفعون على الخشب فى كلّ بلدة، وفى كل إقليم إذا ظهر أحد منهم.
وربما أنّ فى هذا العصر عند وضعى لهذا التاريخ أناس يعتقدون ما قد ذكرناه. غير أنهم لم يصلون إلى هذه الرتبة واحتاجون إليها لقرب مأخذهم بعقول من صبا إليهم، وأنهم يوهمون المغرورين أنهم رسل رجال الغيب، وأنّ رجال الغيب هم المتصرفون فى هذا الوجود
بما شاؤا، يعطون من أحبّوا، ويمنعون من خالفهم. وذلك أنهم رأو الناس متكلّبين على حبّ الدنيا وطلب الرياسة والترقى إلى المراتب، فدخلوا عليهم بما أحبّوا. وقالوا: نحن رسل رجال الغيب المتصرّفين فى هذا العالم بالعطاء والمنع، ويوهموا المغرور ويذكروا له أناس كانوا سقاط قد صاروا أرباب مناصب، ويدّعون أنهم كانوا السبب فى ترقيهم. فيرى ذلك المغرور أن ذلك الرجل الذى ذكروه له كان أقلّ منه فى مبتدإ أمره، وأنه لم يكن أهلا لما قد صار إليه، فتطمع آماله ويرتبط عليهم ويستعبدونه بما شاؤا. فهم عند ذلك المخيّرون.
فهم إن شاؤا أخرجوهم عن دينهم وإن شاؤا استمدوا من أموالهم أوّلا فأولا.
وقد بلغنى عن رجل عظيم القدر لا يمكننى ذكره أنهم لعبوا به حتى ركّبوه ثورا ووجهه إلى ذنبه، وطلعوا به الجبل حتى يجمعوا بينه وبين رجال الغيب وهم يمشون به ووجهه إلى دبر الثور. وقالوا له:
إنك لا تصل إليهم إلاّ بهذا الثور، فإنه الذى يسقى عليه أرضهم التى يقتاتون بها لاجل أكل الحلال. فانظر إلى. . . (ص 75). . . . . .