الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة ثلاث وستين وأربع مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
ما لخّص من الحوادث
الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام.
والمستنصر خليفة مصر، وناظر دولته أبو العلاء عبد الغنى بحاله.
فيها فتح تاج الدولة دمشق. وفتحت الروم صقلية وأخذوها من المسلمين.
وفيها كانت الوقعة العظيمة بين السلطان ألب أرسلان السلجوقى وبين ملك الروم.
وذلك أنّ ألب أرسلان لما توجّه من همدان فتح أرجيش وقصد (ص 226) مناز كرد إلى ميّا فارقين. فنزل بتلّ بغداد.
وكان يومئذ مدبّر الممالك الخليفية الوزير نظام الملك نصر بن مروان، فخرج إليه وهو خائف يترقّب. فلما حضر بين يديه قرّر عليه مئة ألف دينار يحملها وخلع عليه.
ثم إنّ نظام الملك أخرج للسلطان من الإقامات والتقادم والعلوفات شئ كثير. وكان ذلك على ميّافارقين. فبلغ السلطان أنّ جميع ذلك إنما أخذه الوزير نظام الملك من أموال الرعّية. فردّ الجميع عليه، وقال: ما لنا فى أموال الرعيّة من حاجة. وأمره بردّه على أصحابه، فأعاده، حتى قيل إنه ردّ على فلاح بيضة كانت أخذت منه.
ثم حمل نظام الملك الإقامات للسلطان من ماله وصلب حاله.
ثم إنّ السلطان ألب أرسلان فتح السويدا وحصون كثيرة إلى حرّان، ثم نزل على الرّها، ونصب المناجيق، وردم خندقها.
فبذلوا له خمسين ألف دينار على أن يعفيهم، فكفّ عنهم، ثم غدروا ولم يوفوا. ورحل السلطان طالبا للفرات، وتقاعدت عنه العساكر الذين كانوا من العراقين، وهو عسكر عمّه طغريل بك المقدّم ذكره، وخبثت نفوسهم لأجل تأخير أرزاقهم، ونزل على الفرات فى شرذمة يسيرة الخصّيصين به من عسكره. فلم يحفل به محمود صاحب حلب، ولا نزل إليه. فأضربت العساكر فى بلاد حلب تنهب، ووصلوا إلى القريتين من عمل دمشق أيضا. ثم نزل على حلب وحاصرها، فأرسل
إليه محمود يطلب الموادعة، ووعده أن يدوس البساط. ثم إنّه خرج إليه فى الليل ووالدته معه ومسكته بيده وقدّمته للسلطان ألب أرسلان الملك العادل. وقالت: يا خوند هذا ولدى ومهجة فؤادى قد سلمته إليك افعل فيه (ص 227) ما أحببت من جميل إحسانك. فرقّ لها وأكرمها وطيّب قلب ولدها. وقال: خد والدتك وعود إلى مكانك، وأخرج من الغد لترى ما أفعله معك. فعاد من الغد. فأمر الوزير نظام الملك والحجّاب أن يتلقوه، ودخل على السلطان فأكرمه وأجلسه وأخلع عليه بما يليق بمثله، وأنعم عليه بالخيول بالمراكب الذهب، وركّبه بالكوسات والصناجق.
ثم وردت الأخبار على السلطان ألب أرسلان أنّ ملك الروم خرج فى جموع عظيمة، وورد إلى منبج وأرجيش ومناز كرد. فرجع السلطان. وعدّا الفرات. وبلغ ملك الروم أنّ السلطان فى عسكر خفيف. فطمع فى لقائه. ووصل الخبر إلى السلطان بما عزم عليه ملك الروم وطمعه فيه لقلّة جيوشه. وكان قد بقى فى أربعة آلاف فارس.
فقال لوجوه عسكره: أنا صابر فى هذه الغزاة صبر المحتسبين، وصابر إلى مصير المخاطرين. فإن سلمت فذلك ظنّى بالله تعالى، وإن تكن الأخرى فأنا أعهد إليكم أن تسمعوا وتطيعوا لولدى ملك شاه، وتقيموه مقامى. فقالوا: سمعنا وأطعنا. وقصد الروم جريدة، مع كلّ غلام فرس يركبه وآخر يجنبه. وسار بنيّة خالصة لا يخالطها كدر لغزاة المشركين وقدّم قدّامه أحد حجّابه فى جماعة من الجند. فصادف عند
أخلاط مقدمة الروم فى عشرة آلاف من الروم، فالتقاهم ذلك الحاجب، وكان فى ثمان مئة فارس. فنصره الله عز وجل على تلك الجموع بمعونة الله تعالى، وأسر مقدّم الجيش وكان من الرءوس، وأخذ صليبهم وأنفذ الجميع إلى السلطان. فسرّه ذلك وعلم أنها علامة النصر.
ووصل ملك الروم إلى مناز كرد فى تلك الجموع العظيمة مما يزيد (ص 228) عن مئة ألف فارس، ومئة ألف جرخى، وأربع مئة عجلة تجرّها ثمان مئة جاموسة، عليها نعال ومسامير برسم الخيول، وألف عجلة أخرى عليها السلاح والمناجيق وآلات الحصار. وكان فى خزائنه ألف ألف دينار، ومئة ألف ثوب إبريسم. وخرج فى نيّة أنه يطأ الأرض ويفتح مصر والشام. واقتطعها للبطارقة. وأوصى على بغداد وقال: لا يتعرّض أحد إلى دار الشيخ الصالح، يعنى الخليفة، فإنّه صديقنا.
وكان قد اجتمع مع السلطان ألب أرسلان تقدير عشرة آلاف من الأكراد والمجتمعة من سائر الناس. فلما كان نهار الجمعة قال السلطان وقد جمع وجوه أصحابه: إلى متى هذا التأخير؟ أريد أن أطرح نفسى عليهم هذا اليوم وقت الصلاة الذى الناس جميعهم من المسلمين يدعون لنا بالنصر على المنابر. فإن نصرنا الله عز وجل عليهم وإلاّ متنا شهداء.
فمن أحبّ أن يتّبعنى فليتّبع، ومن أحبّ الحياة فلينصرف ولا عتب عليه. فما هاهنا اليوم سلطان، وإنما أنا واحد منكم.
فقالوا جميعهم: لا حياة لنا بعدك، ومهما اخترته لنفسك اخترناه لأنفسنا.
فلما كان وقت الصلاة اصطفت العسكرين. فعندها قام السلطان فى سرجه ورمى القوس من يده؛ وتناول لتّ حديد. وفعل جميع أصحابه كفعله. وصاح. الله أكبر فتح الله ونصر. وحمل على الروم حملة صادقة، وحملوا جميع أصحابه بقلوب موافقة، فلم يقفوا الروم قدّامهم ولا طرفة عين لتلك الحملة المنكرة. ونصر الله الإسلام وكسروا عبدة الصلبان والأشخاص والأصنام، وركبوا أكتافهم قتلا وأسرا، وتبعهم السلطان بقيّة يوم الجمعة مع ليلة السبت (ص 329) وهو يقتل ويأسر، فلم ينج منهم إلاّ القليل النادر. وغنم جميع ما كان معهم، ورجع إلى مكانه. فدخل عليه بعض الأمراء الذى له وقال: إنّ أحد مماليكى أسر ملك الرّوم. وكان هذا المملوك قد أعرض على نظام الملك فاحتقره ولم يجيز عرضه وأسقطه، وقال مستهزئا به:
لعلّه يأتينا بملك الروم! فأسر الله ملك الروم على يده لكسر قلبه.
فأمر السلطان بعض الخدّام الذين عنده ممن كان يعرف ملك الروم أن يتوجّه ويكشف عن حقيقة أمره فلما رآه عرفه. فعاد إلى السلطان وأخبره بذلك. فأمر له بخيمة فضربت له، ووكل به من يحفظه،
وأحضر السلطان الغلام الذى أسره وأخلع عليه وأعطاه وقدّمه، وأقطعه غزنة، وجعله من خاصّته.
ثم إنّ السلطان أحضر ملك الروم يرفل بقيوده. فرفسه برجله.
ثم قال له: ما الذى تريدنى أفعل بك؟ قال: إحدى من ثلاث:
الأولى قتلى وإعدامى الحياة. والثانية إشهارى وسجنى، والثالثة:
لا فائدة من ذكرها فإنّك لا تفعلها. قال السلطان: وما على؟ قال:
تعفو عنى وتصطنعنى وتتّخذنى خادما ما بقيت من عمرى. فقال السلطان:
إنى لم أنو إلاّ العفو عنك. فاشتر الآن نفسك. فقال: يقول السلطان ما شاء. فقال: ألف ألف دينار. ثم استقرّ بينهما الحال على ما أحبّ السلطان وهو ألف ألف دينار، وللهدنة ثلاث مئة ألف.
وأن يسيّر فى كلّ سنة عشرين ألف دينار، وأن يتقدّم إلى عساكر الروم بجميع ما يحتاج إليه المسلمون من سائر ما فى بلاد الروم. ثم حلّ وثاقه وأخلع عليه ونصب له سرير إلى جانب سريره. فقال ملك الروم: عجّل بإنفاذى (ص 230) قبل أن تقيم الروم لهم ملكا غيرى.
فقال له السلطان: أريد أن تعيد إلينا ما أخذته من بلادنا، وهو الرّها ومنبج، ومناز كرد، وتطلق سائر أسير عندك من المسلمين.
فقال: أمّا البلاد فإذا وصلت سالما إلى بلدى أنفدت بتسليمها إليكم.
فإنّ الآن لا يسمعون منى. وأمّا أسارى المسلمين فإنى فكنت عاهدت
الله عز وجل ونذرت من قبل أن تعفو عنى، أنى متى ردّيت إلى بلادى سالما أعتقت كلّ أسير عندى. وأنا فاعل ذلك.
ثم إن السلطان ردّه إلى خيمته، ورتّب له ما يصلح لمثله من سائر ما يحتاج إليه. ثم إنه اقترض عشرة آلاف دينار وفرّقها على الحاشية.
فلما كان بعد ثلاثة أيام أحضره السلطان وتلقاه وقام له قائما وأجلسه على سريره الذى كان له وكسب منه، وأخلع عليه ثانيا بأحسن من الأولى، وعقد له راية بيضاء مكتوب عليها بالسواد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنفذ معه حاجبين ومئة غلام، مع سائر ما يحتاج إليه الملوك من الآلات، وركب معه بنفسه وشيّعه مقدار فرسخ، وتعانقا وتودّعا وسار إلى القسطنطينية.
ثم إنّ السلطان كتب إلى الخليفة الإمام القائم بالله أمير المؤمنين يشرح له جميع ما جرى. وزيّنت بغداد، وعملوا القباب وكان فرحا عاما عند سائر الناس بجميع الأقاليم.
وأمّا ملك الروم فإنّه وصل إلى بلاده سالما، وأوفى بجميع ما أوعد به، وزاد فى هداياه أضعاف ما كان فى الظنّ، واستقرّ حال المسلمين معه طول أيام حياته.