الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الحسن بن زكرويه لعنه الله
ولما انصرفت القرامطة عن دمشق بعد قتلة الطاغية بايعوا الحسن ابن زكرويه. فساربهم حتى افتتح عدّة من مدن الشام. وظهر (ص 50) على جند حمص، وقتل خلقا من جند المصرييّن، وتسمّى بأمير المؤمنين. وخطب له بذلك على المنابر. ثم سار إلى نحو الرقة. فخرج إليه مولى الإمام المكتفى بالله، فقتله وهزم جيوشه، واستباح عسكره.
ورجع يريد دمشق، وجموعه ينهبون جميع ما مرّوا عليه من القرى والضياع. فلما قاربوا دمشق أخرج إليهم طغج جيشا كثيفا عليه غلام له يسمى بشير، فهزموه وقتلوه مع خلق من أصحابه. فلما اتصل بالمكتفى قتل غلامه وكسر جيوشه وكثرة فسادهم، ندب لحربهم أبا الأغرّ السّلمى، وضمّ إليه عشرة آلاف فارس من الجند والموالى والأعراب، وخلع عليه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومئتين.
فسار حتى نزل حلب، ثم نزل وادى بطنان. فتفرّق الناس فى ذلك الوادى، ودخل قوم منهم الماء يتبرّدون، وكان ذلك فى القيظ، فلم يشعروا إلا بالقرامطة على حين غفلة منهم يقدمهم المسمى بالمطوّق. فعاد كلّ إنسان يحذر على نفسه وينجو من السيف. وركب أبو الأغرّ فرسه وصاح فى الناس. فثار إليه جماعة لقى بهم أوائل الخيل، ولم يلبث إلا اليسير حتى انهزم. وركبت القرامطة أكتاف الناس قتلا وأسرا،
حتى حجز بينهما الظلام وقد أتوا على عامة العسكر، وسلم منهم القليل. ولحق أبو الأغرّ فى جميع من معه بحلب، ثمّ تلاحق به من سلم، حتى عاد فى نحو ألف رجل. ووافت القرامطة فنازلوا حلب. فحاربهم أبو الأغرّ، فلم يقدروا منه على شئ، فانصرفوا. وجمع طاغيتهم الحسن بن زكرويه أصحابه، وكان قد اتصل به خلق كثير من اللصوص والمتجرّمة، وخلق من بنى كلب. فسار حتى نزل حمص، فخطب له على منابرها. ثم نهض (ص 51) إليها فأعطاه أهلها الطاعة وفتحوا له، فدخلها. ثم سار إلى حماة ومعرّة النّعمان وغيرهما. فقتل الرجال وسبى الدّرارى والأطفال، ثم رجع إلى بعلبكّ فقتل عامة أهلها، ثم صار إلى سلمية فحاربه أهلها وامتنعوا منه، فأعطاهم الأمان ففتحوا له، فمن فيها من بنى هاشم فبدأ به فقتلهم أجمعين، ثم كرّ على جميع أهلها فقتلهم بأسرهم، ولم يبق على أحد منهم، وخرج عنها ولا بها عين تطرف. وكان مع ذلك لا يمرّ بقرية فيدع بها مخبر، حتى أخرب البلاد وسبا الحريم، ولم يقم له أحد.
ووردت كتب التجّار والناس من دمشق وغيرها مستصرخين بالويل والثبور لما نزل بهم، حتى كثر الضجيج بمدينة بغداد، واجتمعت الناس إلى يوسف بن يعقوب القاضى وسألوه مخاطبة الخليفة فى أمور
الناس. فلما علم المكتفى بالله ما الناس فيه من شدّة البلاء، جهّز الجيوش وخرج بنفسه إلى مضربه بباب الشماسيّة فى قوّاده وجنده، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وسلك طريق الوصول ومضى نحو الرقة ونزل بها، وانبّثت الجيوش بين حلب وحمص، وقلّد محمد بن سليمان حرب اللعين الحسن بن زكرويه، وضمّ إليه جيشا كثيفا. وكان محمد صاحب جيش العطاء، فى الديوان المقدّم ذكره فى الجزء الذى قبله.
فلما دخلت سنة إحدى وتسعين ومئتين سار محمد بن سليمان لمناهضة القرامطة. وألتقى الجمعان لست خلون من المحرّم بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر للجيوش الخليفية، وقتل من الطواغيت كماتهم وكبارهم فى حديث طويل هذا (ص 52) ملخّصه.
وكان الحسن بن زكرويه، لعنه الله، لما أحسّ بالجيوش، قد اصطفى المقاتلة. أخرج من معه من الرجال والشجعان عن الضعفة والسواد وعرضهم حتى رضى سلاحهم ورتّب أحوالهم. وقد امتلأ صدره من أمر المكتفى بالله وجيوشه، وهو ضابط لأمره وكاتم لذات نفسه. وأنفذ الجيش وتخلّف فى السّواد والضعفة. فلما انهزم أصحابه ارتاع لذلك، ورحل من وقته بسواده، وسار خوفا من الطلب. وتلاحق من أفلت، فخاطبهم بأنهم
أوتوا من قبل أنفسهم وذنوبهم، وأنهم لم يصدقوا الله، وحرّضهم على المعاودة إلى الحرب. فلم يجبه منهم أحد إلى ذلك، واعتلّوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم. فلما أيس منهم قال لهم: قد كاتبنى خلق من أهل بغداد بالبيعة لى ودعائى نحوها لأظهر بها. وأنا مستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبى. وكتبى ترد إليه بما يعمل به، فاسمعوا له وأطيعوا أمره. فضمنوا له ذلك.
وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمّى بالمدّثر، وصاحبه المطوّق، وغلام له رومى. وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق. وساروا يريدون سواد الكوفة. وسلك البرّ وتجنّب المدن والقرى، حتى إذا صار قريبا من الدالية نفد زاده. فأمر الدليل فمال بهم إليها، ونزل بهم بالقرب منها، خلف رابية. ووجّه بعض من كان معه لابتياع ما يحتاجون إليه. فلما دخلها أنكرونه وقبضوا عليه، وأتى به إلى واليها، وكان يعرف بأبى حبرة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات. والدالية قرية من عمل الفرات. فقرّره فاعترف على رفقته. فسار (ص 53) المتولّى إليهم فى جمع فأخذهم وشدّهم وثاقا، وتوجّه بهم إلى صاحبه ابن كشمرد. فصار بهم إلى المكتفى بالله، وهو يومئذ نازل بالرقّة. فأمر أن يشهروا بها. ففعل بهم ذلك، وعلى الحسن
ابن زكرويه درّاعة ديباج وبرنس حرير، وكذلك المدّثر والمطوّق، وهما على جمال مشهورين.
وذلك فى يوم الأربعاء لأربع بقين سنة إحدى وتسعين ومئتين.
وقدم محمد بن سليمان بالجيوش بعد أن تتّبعوا القرامطة وما بقى منهم، وقتلوا وأسروا، وخلّف المكتفى بالله عساكره مع محمد بن سليمان بالرقة وشخص فى خاصته وغلمانه ومعه القاسم بن عبيد الله الوزير إلى بغداد. ودخل القرمطى وأصحابه معه. وذلك فى أول يوم من صفر من هذه السنة.
فلما صار إلى بغداد عمل له كرسيا سمكه ذراع ونصف، وركّبه على فيل. ودخل المكتفى بالله وهو بين يديه مع أصحابه الأسرى، والمطوّق فى فيه خشبة مخروطة قد شدّت إلى قفاه كالّلجام. وكان لما دخل الرقة عاد يشتم ويبصق. ففعل به ذلك عند عبوره بغداد، ثم وصل محمد بن سليمان بالجيوش وقد تلقط جماعة من القرامطة، ودخل فى زىّ حسن، وخلع عليه، وطوّق وسوّر. وكذلك سائر من كان معه من القوّاد خلع عليهم وأنعم.
ثم أمر المكتفى بالله ببناء دكة فى المصلّى العتيق من الجانب الشرقى مربّعة ذرعها عشرون ذراعا فى مثلها، وارتفاعها عشرة أذرع بدرج يصعد إليها.
فلما كان يوم الاثنين لأربع بقين من ربيع الأول أمر المكتفى بالله القوّاد وجميع الغلمان وصاحب جيشه محمد بن سليمان وصاحب شرطته أن يحضروا إلى تلك الدكّة، وصعدها الوجوه، وحضر الباقون على دوابهم، وخرج (ص 54) سائر أهل بغداد. وكان يوما مشهودا.
وحملوا الأسرى كلّهم مع خلق كثير أتوا من سائر البلاد من القرامطة ممن مسك وحمل إلى بغداد ممّن كان على مذهبهم، فقتلوا جميعا.
وعدتهم ثلاث مئة وستون نفرا.
ثم قدّم الحسين بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه وهما زميلان على بغل فى عمّرية قد أرسل عليهما أغشيتها. فأصعدا إلى الدكّة فأقعدا. وقدم أربعة وثلاثون إنسانا من الأسرى من وجوه القرامطة ممن <عرف> بالنكاية والعداوة للإسلام، والكلب على سفك الدماء وسبى الحريم. فكان كل واحد منهم يبطح على وجهه فتقطع يده اليمين ويرمى بها إلى أسفل الدكة ليراها أهل المشهد من الناس، ثم تقطع رجله اليمنى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليسرى، ثم تضرب عنقه. حتى فعل ذلك بجميعهم. ورمى بأعضائهم إلى أسفل الدكة.
فلما فرغ من تلك العدّة قدّم المدّثر بزعمه لعنه الله ففعل به مثل ذلك، وكوى بالمكاوى قبل ضرب عنقه ليعذب. ثم المطوّق فعل به
كذلك. ثم قدّم الحسن بن زكرويه لعنه الله فضرب مئتى سوط، ثم كوى بالمكاوى، ثم قطعت ساير أعضائه، وضربت رقبته، ورفع رأسه على خشبة. وكبّر من على الدكّة، وكبّر الناس وانصرفوا.
وحملت الرؤوس فنصبت على الجسر. وصلب بدن القرمطى، فمكث مصلوبا نحو من سنة، ثم سقط عليه حائط.