الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة تسع وستين وثلاث مئة
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط.
ما لخّص من الحوادث
الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين.
وعضد الدولة فناخسرو مدبّر الممالك الخليفيّة.
وكان قد تقدّم القول أنّ أبا تغلب لما كسر هرب إلى زوزان، فأنفذ خلفه عضد الدولة العساكر، فهرب من زوزان إلى آمد، ثم سار إلى الرحبة، وكتب إلى العزيز بمصر يطلب الدخول إلى عمله والإقامة فيه. ثم سار فى برارى وجبال وأودية حتى خرج من حوران، ثم سار حتى نزل دمشق. فقال قسّام: لا يدخل أحد من أصحابه دمشق.
وكان جواب كتاب أبى تغلب قد ورد عليه بما يحب، وكتب إلى قسّام أن يمنع أبا تغلب من البلد. فسأل أبو تغلب الآمدىّ عامل الخراج أن تكون أصحابه يتسوّقون من البلد. فكان ذلك. وكان
أبو تغلب قد طمع أن يولّيه العزيز دمشق. وكان قسّام قد خاف من ذلك. وكان لمّا نزل أبو تغلب من ظاهر دمشق قال ابن كلّس الوزير (ص 125) للعزيز: إنّ هذا الرجل إن تمكّن عظم شرّه.
والصواب أن نعمل فى هلاكه. فكانوا يكتبون إليه بكلّ ما يحب، ويكتبون إلى قسّام: لا تمكّن هذا من شئ فيطمع فى البلد. فضربوا بينهما. وأقام أبو تغلب بظاهر المزّة شهورا. فثقل على قسّام مقامه.
فلما كان فى بعض الأيّام وقف رجل أعجمىّ فى باب الجابية وكان متنبّذا وهو من أصحاب أبى تغلب، فحرّك سيفه وقال: أين هذا العيّار؟ فعظم على قسّام، وتخوّف أن تكون لأبى تغلب سلطنة عليه فيهلكه ومن معه. فانفسد الحال بينهما. وقال قسّام لأصحابه: إذا دخل أصحاب أبى تغلب فخذوهم. فأخذوا منهم تقدير سبعين رجلا، وقتلوا جماعة منهم، وخرج الذين أفلتوا إلى أبى تغلب وقد أخذت ثيابهم ودوابّهم. فلم يقدر على شئ يفعله. وكتب إلى مصر بذلك.
فأعجب ذلك الوزير ابن كلّس وحسّنه للعزيز.
ولمّا جرى على أصحاب أبى تغلب ما جرى طلبوا قوما من أصحاب قسّام فى الغوطة كانوا يأخذون الخفارات. فهربوا وقوى خوفهم.
وكتب قسّام إلى مصر يذكر أنّ أبا تغلب قد حاصر البلد، وقد مدّ يده فى الأعمال ونحن فى الحرب معه. فخرج من مصر غلام للوزير
ابن كلّس يقال له الفضل فى عسكر كبير للحيلة على أبى تغلب وعلى العمل فى هلاكه. فنزل الرملة، وأرسل إلى ابن الجرّاح سجلاّ بولاية الرملة، وقال: إنّ هذا أبا تغلب يريد أن يسير إليها فيأخذها بسيفه، وأنا معين لك عليه.
وكان أبو تغلب قد سار من دمشق فترك الفوّار. وسار الفضل فنزل طبرية، وأرسل إلى أبى تغلب: نريد نجتمع. وكان الفضل فى القديم يهوديا، وكان أبوه طبيبا. فكبرت (ص 126) نفس أبى تغلب أن يجلس معه على سرير من جهة أنّه يهودىّ الأصل.
فاتفق الحال بينهما أن يجلس كلّ واحد على سرير. فكان ذلك.
فجرت بينهما مخاطبة على أنّ ولاية الرملة له. وأخرج له بذلك سجلاّ، وأنه يقلع ابن الجراح منها. وقال له: أنا معين لك على ابن الجرّاح إذا كان بينكما حرب.
وسار الفضل إلى دمشق فجبى الخراج، وقبّض الجند، وزادهم فى العطاء، وزاد فى عسكره رجالا كثيرا. وسار عن دمشق وأخذ طريق السّاحل. وكان أبو تغلب قد نزل الفوّار وفتح أهراء كانت بحوران والبثنيّة فى مواضع كان أبو محمود عمرها وجمع فيها. وكان قد اجتمع إلى أبى تغلب العرب من بنى عقيل ومعهم شبل بن معروف، فسار بهم إلى الرملة. فهرب ابن الجرّاح منها. وأقبل يجمع من أمكنة من
العرب وهو واثق أن الفضل معينا له. وكذلك كان ظنّ أبو تغلب.
وسار الفضل فنزل عسقلان وعسكر بها. وأقبل ابن الجرّاح بجموعه والتقى مع أبى تغلب، واصطلى القتال بين الطائفتين من العرب، وأبو تغلب قائم فى مصافه لم يكن جنده بالكثير. وكان معه أيضا جماعة من المغاربة صاروا إليه. فلما حملت عرب ابن الجرّاح على عرب أبى تغلب تقهقروا، وسار الفضل من عسقلان فاجتمع عسكره مع عسكر ابن الجرّاح بالاتفاق الذى كان بينهما. فقالوا لأبى تغلب: إنّ عسكر الفضل صاروا إلى عسكر ابن الجرّاح. فقال: على هذا كانت الموافقة بينى وبين الفضل. فلما رأى مغاربة الفضل قد حملوا على جيشه، تحقّق المكيدة، وانهزم جميع من كان معه، ثم انهزم هو فلم يدر أين يأخذ. وكان عليه حديد مانع وسيف قاطع. وهو من الفرسان المعدودين فى الحرب (ص 127) وتحته فرس سابق. فذكر أنّه لم يتقدّم إليه رجل إلاّ قدّه، وهو مولى. فتبعه رجل من أصحاب ابن الجرّاح يقال له مشيع، فصاح إليه: يا إنسان! اسمع منى يا إنسان. أنا أنجو بك. فظنّ أنّ كلامه حقّ. فسمع كلامه، وهو منه على بعد، فقال له: هذه الخيل التى أمامك هى خيلنا، وهذه الخيل التى حولك هى لنا، ولو وقفت علىّ لنجوت بك، وتحلف
لى على مال تعطينى إيّاه. وعاد يكلّمه وهو يقرب منه، وهو يظنّ أنه لا يقدر عليه. فلم يشعر به حتى طعن عرقوب فرسه. فوقف به الفرس، وأخذه أسيرا وأتى به إلى ابن الجرّاح. فأركبه جملا وأشهره بالرملة. ثم حبس فى مكان، فطلب شئ يتوسّد عليه فأتوه بشوك وقالوا له: يقول لك الأمير توسّد هذا. فأغلظ لهم فى القول وشتم ابن الجرّاح. فبلغه، فقتله صبرا وأحرقه بالنار.
وذلك لليلتين خلتا من صفر من هذه السنة.
وفيها كانت الفتنة بين عضد الدولة فناخسرو وابن أخيه. ونفد إليه الجيوش. وذلك الذى أشغله عن الشام ومصر وأخبارهما.
فلمّا أمن العزيز العساكر من جهة عضد الدولة نفد إلى دمشق سلمان بن جعفر بن فلاح فى أربعة آلاف من المغاربة، ووصل إلى دمشق فوجد قسّاما غالبا عليها. فنزل بستان الوزير فى زقاق الرمّان، وعسكره حوله. فثقل أمره على قسّام ورأى أميران تحكم فى البلد. وقد كان قسّام طمّع آماله وصنع أعلاما وطوارقا عليها صفة قحف. قيل إنه كان ترّابا زبّالا فجعل ذلك القحف رنكه.
وكان قسّام هذا أصله من قرية من جبل سنير يقال لها تلفيثا.
وكان من قوم يقال لهم الحارثيّون من بطن من العرب. فنشأ (ص 128)
بدمشق. وكان يعمل على الدواب فى التراب والزبل وغيره. ثم إنّه صحب رجلا يقال له ابن الجسطار ممن كان يطلب الباطل ويحمل السّلاح. فصار من حزبه، وترقّى أمره إلى ما ذكرنا.
وطال المقام على سلمان بن جعفر فى غير شئ، وليس فى يده ما ينفق. فأراد أن يظهر صرامة ليتمكّن من البلد. فقال لقسّام:
لا تحمّلن أحدا سلاحا. فأبوا عليه ذلك. فبعث إلى الغوطة من يسير فيها وينهى من يأخذ الخفارة أو يحمل السلاح. فعرّفوا قسّاما فقال: هذا ما لا يفكر فيه.
ثم إنّ أصحاب سلمان بن جعفر وجدوا رجلا يقال له حميد ومعه ثلاثة يحملون السلاح. وكان ممن يأخذ الخفارة لقسّام. فأخذوا رؤوسهم.
فكان ذلك سبب الحرب والقتال بين سلمان وبين قسّام.
ثم إنّ قسّاما جمع مشايخ البلد وكتب محضرا أشهد فيه على نفسه أنّه يحمى البلد ممن يحضر إليها من جهة عضد الدولة فناخسرو، ويمنعها منه. وأنفذه إلى مصر. فوقع ذلك بغرض العزيز بالموافقة.
وأنفذ رسلا من كتامة إلى سلمان أن يرتحل عن دمشق. فرحل عنها.
وكان مقامه بها شهورا من هذه السنة.
ورجع أبو محمود بعد مسير ابن فلاح إلى دمشق فى رسم وال، من طبرية، فى نفر يسير. وعاد أمر دمشق مستقّلا لقسام.
وفيها كانت عدة زلازل عظيمة فى عدّة أماكن، حتى ظنّوا الناس أنها القيامة قد قامت.
وفيها توفى أبو عبد الله الحسين بن على البصرىّ، شيخ المعتزلة، رحمه الله.