الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خبر زكرويه لعنه الله وقتله
فلما وردوا القطقطانة، وهى قرية خراب فى البرّ، بينها وبين الكوفة ستة وثلاثون ميلا، وذلك يوم الأربعاء قبل يوم عرفة بيوم، من سنة ثلاث وتسعين ومئتين خلّفوا بها الخدم والأموال والسواد والحريم.
ثم أمرهم أن يلحقونه <إلى> عين الرحبة، على ستة أميال بين الكوفة <و> القادسية. ثم اشتوروا كيف يكون هجومهم الكوفة.
فقال قائل: ليلا فلا يتحرك أحد إلا قتلناه، ويخرج إلينا وإليها فى قلة فنأخذه أو نقتله.
وقال آخر: نمهل إلى أن يدخلها عشية فى يوم العيد والجند سكارى والبلد خال. فنقصد باب إسحاق واليها وهو غافل فنأخذه.
فهو أذل لهم ولا يقاومنا بعده أحد.
وكانت شحنة الكوفة يومئذ سبعة آلاف رجل، إلا أنّ المقيم بالكوفة يومئذ أربعة آلاف من المصريين والشاميّين وغيرهم. والناس بها أحياء، والبلد على غاية الاجتماع والحسن وكثرة الناس، والحاج بمكة قد خرجوا على أحسن حال.
وقال آخرون من القرامطة: نسير ليلتنا ثم نكمن فى النّجف، ثم نريح الخيل وننام، ونركب عمود الفجر فنشنّها غارة على أهل المصلّى، ونضع السيف وهم آمنون ليس فيهم (ص 59) من معه سلاح.
فقال اللعين: هذا هو الرأى.
ففعلوا ذلك، حتى إذا حصلوا على المكان الكمين، ناموا لما يريده الله تعالى من سلامة الناس، فلم يوقظهم إلا الشمس يوم العيد، لطفا من الله عز وجل.
ومن ألطاف الله عز وجل أيضا أنّ إسحاق بن عمران المتولّى كان قد أحدث مصلّى بالقرب من طرف البلد فصلّى فيه. وكان الرجوع منه إلى البلد سهلا، فقصدت القرامطة المصلّى العتيق على ما كانوا يقدّرون أنّه مصلاّهم فلم يصادفوا به أحد. فأقبلت خيل منهم من تلك الجهة فدخلت الكوفة من يمينها، فوضعوا السيف حتى وصلوا إلى حبسها ففتحوه، وقتلوا كثيرا من الناس، وجرحوا خلقا. فارتجّت الكوفة، وخرج الناس بالسلاح، وتكاثر الناس على من دخل الكوفة من القرامطة، فقذفوهم بالحجارة، ورمى عليهم بالسهام، فقتلوا جماعة. وأقبل جلّ القوم من الخندق فقتلوا ناسا، وناوشهم طوائف من الجند تخّلفوا فى الصحراء.
وكان إسحاق بن عمران المتولّى قد انصرف إلى منزله فى أحسن زى.
فلما سار فى بعض الطريق لحقه فارس من بنى أسد على فرس قد جرح، فخبّره أنّ قوما من الأعراب قد هجمت البلد فقتلت وسبت وخرجت إلى الصحراء، وإنّى لقيتهم ففعلوا بفرسى ما تراه. ثم إنه تحقق أمرهم فكان بينهم طول ذلك النهار حرب شديد. ورجع القرامطة إلى سوادهم بعد قتلا كثير فى الناس من أهل الكوفة وجماعة من القرامطة.
وأبلى فى هذه النوبة إسحاق بن عمران بلاء حسنا، وعرف <الناس> منه ثباتا وشجاعة.
ثم كتب من وقته كتابا إلى الوزير العباس بن الحسن يعرّفه بجميع ذلك، ويستصرخه بالجيوش.
ولما وصلوا القرامطة إلى سوادهم بعين الرحبة رحلوا هم إلى (ص 60) عين يسرة العذيب تعرف بعين عبد الله. ثم رحلوهم فنزلوهم بقرية تعرف بالصوان، على نهر هدّ من سواد الكوفة. فخرج إليه منها عند نزولهم إياها زكرويه بن مهرويه لعنه الله. وكان بها مستترا. فقال [أحمد بن القاسم] للعسكر: هذا صاحبكم وسيدكم ووليّكم الذى تنتظرونه. فترجّلوا بأجمعهم وألصقوا خدودهم بالأرض. وضرب لزكرويه مضرب عظيم وطافوا به، وسرّوا جدا، واجتمعت إليه جميع أهل دعوته من السواد وغيره.
فعظم جيشه وتكاثفت عساكره.
ولما وصل كتاب إسحاق بن عمران إلى الوزير العباس بن الحسن قلق وشاور أصحابه فى لقاء المكتفى بالله بذلك. فأشاروا عليه بتعجيله.
فقال: كيف ألقاء بذلك مع ما يحتاج إليه من الأموال؟ ولعهدى به قد ناظرنى بالأمس فى دينار ذكر أنه فضل بقية نفقة دفعت إليه.
فقال أصحاب الوزير له: اذكر له ذلك، فإن أسعفك وإلاّ ففى أموالنا فضل.
فقال: لقد فرّجتم عنى.
ثم إنه طالع المكتفى بالله. فقال له المكتفى: كأنى بك أيها الوزير قد قلت كيف أطالع أمير المؤمنين بمثل هذا، وبالأمس قد ناظرنى فى دينار!
فقال: قد كان ذلك والله يا أمير المؤمنين.
قال: إنما كان ذلك يقتضى لمثل ما كنا فيه، وأمّا هذا فلا نبخل بمال. امدد يدك بالإنفاق فى الرجال ليلا ونهارا، وجرّد الكبار من القوّاد.
ففعل ذلك. ووصل أوائل الجيش الكوفة فى اليوم السادس من عيد النحر.
قلت: ثم كان لهم بعد ذلك وقائع وحروب. وأخذوا القرامطة تلك السنة جميع الحاج القادم. وفعلوا من الأمور القباح ما يضيق عنه
التلخيص، حتى بلغ من أمر المكتفى أنّه امتنع من الدخول إلى النساء، وكان يصوم (ص 61) نهاره سهوا لعظم أمرهم وفخامة حالهم. وكسروا جيوش الخليفة عدّة طرق. وقتلوا وأسروا كبار القواد، وفعلوا أمور تقشعرّ لسماعها الأبدان.
ولم يزالون كذلك حتى نفذ المكتفى بالله سائر جيوشه مع خاصة نفسه يقدمهم محمد بن إسحاق بن كنداج وغيره. فنزلوا يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومئتين بقرية خراب يقال لها صماخ، كان يسكنها على قديم الزمان قوم من ربيعة يقال لهم بنو عنزة، وبينها وبين البصرة ثلاثة أيّام. فلقيهم قوم من الأعراب فخبّروهم أنّ القرامطة بالبنّى، وهو موضع من وادى ذى قار الذى كانت فيه وقعة العرب مع العجم فى أيام كسرى ابرويز، فظفرت العرب بالعجم.
وهو واد كثير الماء العذب، وبينه وبين منزلة الجيش الخليفتى عشرة أميال. فبات الجيش بصماخ. وتراءت الطلائع فى عشى يومئذ. ورحل من غد زكرويه لعنه الله طامعا فى الظفر. فالتقوا بقرية خراب يقال لها إرم بينها وبين البنّى ثلاثة أميال، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من ربيع الأول، فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفئتين. ثم كانت
الدائرة على اللعين زكرويه، فانهزم، وقتل من جيوشه أكثرها، وأسر منهم خلق كثير. وأفلت صعاليك من العرب على الخيل مجرّدين.
ووصل إلى الملعون وهو فى القبة فى أوائل سواده، وقد كانوا قد تحمّلوا فأخذوا. وكان سبيا عظيما، فلم يؤبه إليه وظنوا أنّه فى الخيل المنهزمة فاتّبعوها. ثم إنّ رجل من الجيش الخليفتى قذف بنار فوقعت فى قبته، فخرج الملعون من ظهرها. فلحقه بعض (ص 62) الرجالة وهو لا يعرفه. فأدركه بعض أصحاب للحيم وهو قد ضربه على رأسه ضربة أثخنه بها. فسقط إلى الأرض. فلما عرفه ذلك الرجل الذى أدركه قال لصاحبه: قد ظفرت يدك. هذا صاحب القوم. ثم أركبه نجيبا فارها وقال له: طر إن أمكنك. فإذا دخلت بغداد فعرّف الوزير أنك رسولى وسلّم إليه الخاتم واشرح له ما شاهدت. واعلم أنه إن علم محمد ابن إسحاق بن كنداج وإسحاق بن عمران بمكانك حبساك حتى يسبقك الخبر منهما إليه.
فعمل بذلك. فكان ذلك الرجل أول بشير بالفتح على الوزير.
ومضى لحيم إلى وصيف وابن سيما فعرّفهما. فاجتمعوا جميعا وكتبوا كتاب الفتح، وأخذ جماعة من آل زكرويه، ونهب الجيش عسكرهم.
وأخذت زوج اللعين زكرويه <و> تسمى مؤمنة. وانصرفوا نحو الكوفة فمات الملعون بخفّان من جراحاته، وصبّر وكفّن، وشهر كذلك بمدينة السلام على جمل. وأدخلوا الأسرى ورؤوس من قتل على الجمال، والنساء فى الجوالقات.
ومات خبر القرامطة وانقطع ذكرهم إلى سنة خمس وتسعين ومئتين.