الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُسْتَتِرًا (89) به، فهو كالمُغَنِّى لنَفْسِه، على ما ذُكِرَ من التَّفْصيلِ فيه.
فصل:
فأمَّا الحُدَاءُ، وهو الإِنْشادُ الذى تُساقُ به الإِبِلُ، فمُباحٌ، لا بَأْسَ (90) فى فِعْلِه وِاسْتِماعِه؛ لما رُوِىَ عن (91) عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهَا، قالت: كُنَّا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فى سَفرٍ، وكان عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحَةَ جيِّدَ الحُدَاءِ، وكان مع الرِّجالِ، وكان أَنْجَشَةُ مع النِّساءِ، فقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لابن رَواحَةَ:"حَرِّكْ بِالْقَوْمِ". فانْدَفَعَ يَرْتَجزُ، فتَبِعَه أَنْجَشَةُ، فَأعْنَقَتِ الإِبلُ، فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأنْجَشَةَ:"رُوْيدَكَ، رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ"(92). يَعنى النِّساءَ. وكذلك نَشِيدُ الأَعْرابِ، وهو النَّصْبُ، لا بأْسَ به، وسائرُ أنواعِ الإِنْشادِ، ما لم يَخْرُجْ إلى حدِّ الغِناءِ. وقد كان النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ إْنشادَ الشِّعرِ، فلا يُنْكِرُه. والغِناءُ، من الصَّوتِ، مَمْدودٌ مَكْسورٌ. والغِنَى، من المالِ، مَقْصورٌ. والحُداءُ، مَضْمومٌ مَمْدودٌ، كالدُّعاءِ والرُّعاءِ، ويَجوزُ الكَسُر، كالنِّداءِ والهِجاءِ والغِذاءِ.
فصل: والشِّعرُ كالكَلامِ؛ حَسنُه كحَسنِه، وقَبيحُه كقَبيحِه. وقد رُوىَ عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحُكْمًا"(93)، وكان يَضَعُ لحسَّانَ مِنْبرًا يَقومُ عليه، فيَهْجُو مَن
(89) فى أ: "متسترا". وفى ب، م:"معتبرا".
(90)
فى أ، ب، م زيادة:"به".
(91)
فى الأصل: "أن".
(92)
لم نجده عن عائشة، وأخرجه عن أنس بن مالك، البخارى، فى: باب المعاريض مندوحة عن الكذب، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 58. ومسلم، فى: باب رحمة النبى صلى الله عليه وسلم بالنساء. . .، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1811، 1812. وابن حبان، انظر: الإحسان 7/ 522. والإمام أحمد، فى: المسند 3/ 107، 117، 172، 176، 187، 202، 206، 227، 254. وأخرجه عن عبد اللَّه بن رواحة، النسائى فى الكبرى. انظر: تحفة الأشراف 4/ 319. وأخرجه النسائى أيضًا فى الكبرى، عن عمر. انظر: تحفة الأشراف 8/ 98، 99.
(93)
أخرجه البخارى، فى: باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 42. وأبو داود، فى: باب ما جاء فى الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 598. والترمذى، فى: باب ما جاء: إن من الشعر حكمة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 288. وابن ماجه، فى: باب الشعر، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1235، 1236. والدارمى، فى: باب فى أن من الشعر حكمة، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 297. والإمام أحمد، فى: المسند 1/ 269، 273، 303، 309، 313، 327، 332، 5/ 125.
هَجَا رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ (94). وأنْشَدَه كَعْبُ بنُ زُهَيرٍ قَصِيدةَ:
* بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى الْيَومَ مَتْبُولُ *
فى المسجدِ (95). وقالَ له عمُّه العبَّاسُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّى أُريدُ أَنْ أمْتَدِحَكَ. فقال:"قُلْ، لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فاكَ". فأنْشدَه:
مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِى الظِّلالِ وفى
…
مُسْتَوْدَعٍ حيثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ (96)
وقال عمرُو بنُ الشَّرِيدِ: أرْدَفَنى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "أَمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ؟ ". قلتُ: نعم. فأنشَدْتُه بيتًا، فقالَ:"هِيهِ". فأنشَدْتُه بيتًا، فقالَ:"هِيهِ". حتى أنشدتُه مِائَةَ قَافيةٍ (97). وقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ:
أَنَا النَّبِىُّ لَا كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ (98)
وقد اخْتُلِفَ فى هذا، فقيل: ليس بشِعرٍ، وإنُّما هو كَلامٌ مَوزُونٌ. وقيلَ: بل هو شِعرٌ، ولكنَّه بَيْتٌ واحدٌ قَصيرٌ، فهو كالنَّثْرِ. ويُرْوَى (99) أَنَّ أبا الدَّرْداءِ قِيلَ له: ما مِن أهلِ بيتٍ فى الأنْصارِ، إِلَّا وقد قالَ الشِّعْرَ. قالَ: وأنا قد قُلْتُ:
(94) أخرجه أبو داود، فى: باب ما جاء فى الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 599. والترمذى، فى: باب ما جاء فى إنشاد الشعر، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 289.
(95)
أخرجه البيهقى، فى: باب من شبب فلم يسم أحدا. . .، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى، 1/ 243. وعجز البيت:
* مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ *
وانظر: ديوانه 6 - 25.
(96)
عزاه الهيثمى إلى الطبرانى. مجمع الزوائد 8/ 217، 218.
(97)
أخرجه مسلم، فى: كتاب الشعر. صحيح مسلم 4/ 1767. وابن ماجه، فى: باب الشعر، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1236. والإمام أحمد، فى: المسند 4/ 388 - 390.
(98)
أخرجه البخارى، فى: باب من قاد دابة غيره فى الحرب، وباب بغلة النبى صلى الله عليه وسلم البيضاء، وباب من صف أصحابه عند الهزيمة. . .، من كتاب الجهاد، فى: باب قول اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. . .} ، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 37، 39، 81، 5/ 194، 195. ومسلم، فى: باب غزوة حنين، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1400، 1401. والترمذى، فى: باب ما جاء فى الثبات عند القتال، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 184. والإمام أحمد، فى: المسند 4/ 281، 304.
(99)
فى ب: "قيل ويروى".
يُريدُ المَرءُ أن يُعْطَى مُناهُ
…
ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا ما أَرادَا
يَقولُ المَرءُ فَائِدَتِى ومَالِى
…
وتَقْوَى اللَّهِ أَفْضلُ ما اسْتفادَا (100)
وليس فى إباحةِ الشِّعر خِلافٌ، وقد قالَه الصَّحابةُ والعُلَماءُ، والحاجَةُ تدْعُو إليه لمَعرِفةِ اللُّغةِ والعربيَّةِ (101)، والاسْتشهادِ به فى التَّفْسيرِ، وتَعَرُّفِ معانى كَلامِ اللَّهِ تعالى، وكلامِ رَسولِه صلى الله عليه وسلم، ويُسْتَدلُّ به أيضًا على النَّسَبِ، والتَّاريخِ (102)، وأيَّامِ العَربِ. ويُقال: الشِّعْرُ ديوانُ العَربِ. فإن قيل: فقد قال اللَّهُ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (103) وقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ، خَيْرٌ له مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا". رواه أبو دَاودَ، وأبو عُبيدٍ (104). وقال: مَعنَى يَرِيَهُ، يَأكلُ جوفَه، يُقالُ: وَرَاه يَرِيه، قال الشَّاعرُ (105):
وَرَاهُنَّ رَبِّى مثلَ ما قَدْ وَرَيْنَنِى
…
وأحْمَى على أكْبادِهِنَّ الْمَكاوِيَا
قُلْنا: أمَّا الآيةُ، فالمُرادُ بها مَن أسْرَفَ وكَذَبَ؛ بدليلِ وَصْفِه لهم بقولِه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (106). ثم اسْتثْنَى المؤمِنينَ، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (107). ولأنَّ الغالبَ على
(100) أورده ابن عبد البر، فى: الاستيعاب 4/ 1648.
(101)
سقطت الواو من: أ، م.
(102)
فى أ: "والتواريخ".
(103)
سورة الشعراء 224.
(104)
أخرجه أبو داود، فى: باب ما جاء فى الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 598. وأبو عبيد، فى: غريب الحديث 1/ 34 - 36.
كما أخرجه البخارى، فى: باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر. . .، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 45. ومسلم، فى: كتاب الشعر. صحيح مسلم 4/ 1769، 1770. والترمذى، فى: باب ما جاء: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا. . .، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 292. وابن ماجه، فى: باب ما كره من الشعر، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1236، 1237. والدارمى، فى: باب: لأن يمتلئ جوف أحدكم. . .، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 297. والإمام أحمد، فى: المسند 1/ 175، 177، 181، 2/ 39، 96، 288، 331، 355، 391، 478، 480، 3/ 8، 41.
(105)
هو سحيم عبد بنى الحسحاس. ديوانه 24.
(106)
سورة الشعراء 225، 226.
(107)
سورة الشعراء 227.
الشُّعراءِ قِلَّةُ الدِّينِ، والكَذِبُ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ، وهجاءُ الأبْرياءِ، سِيَّمَا مَن كان فى ابْتداءِ الإِسْلامِ، ممَّن يَهْجُو المُسلمين، ويَهْجُو النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، ويَعيبُ الإِسلامَ وأهلَه (108)، ويَمْدحُ الكُفَّارَ، فوقَعَ الذَّمُّ على الأغْلبِ، واسْتَثْنَى مِنهم مَن لا يَفْعَلُ الخِصالَ المَذْمومةَ، فالآيةُ دليلٌ على إباحتِه، ومَدْحِ أهلِه المتَّصفِينَ بالصِّفاتِ الجَميلةِ. وأمَّا الخبرُ؛ فقال أبو عُبَيْدٍ: مَعناهُ أن يَغْلِبَ عليه الشِّعرُ حتى يَشْغلَه عن القُرآنِ والفِقْهِ. وقيل: المُرادُ به ما كان هِجاءً وفُحْشًا، فما كان من الشِّعرِ يَتضمَّنُ هَجْوَ المُسلمينَ، والقَدْحَ فى أعراضِهم، أو التَّشْبيبَ (109) بامْرأةٍ بعَيْنِها، بالإِفْراطِ (110) فى وَصْفِها، فذكرَ أصحابُنا أنَّه مُحَرَّمٌ. وهذا إن أُرِيدَ به أنَّه مُحرَّمٌ على قائلِه، فهو صَحيحٌ، وأما على رَاوِيه فلا يَصِحُّ؛ فإِنَّ الْمَغازِىَ تُرْوَى فيها قَصائدُ الكُفَّارِ الذين هَجَوْا بها (111) أصحابَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لا يُنْكِرُ ذلك أحدٌ. وقد رُوِىَ أن النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ فى الشِّعرِ الذى تَقاوَلَتْ به الشُّعراءُ فى يومِ بدرٍ وأُحدٍ وغيرِهما، إِلَّا قصيدةَ أُميَّةَ بنِ أبى الصَّلْتِ الحائيَّةَ (112). وكذلك يُرْوَى شِعرُ قَيسِ بنِ الخَطِيم (113)، فى التَّشْبِيب بعَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ، أُختِ عبدِ اللَّهِ بنِ رَوَاحَةَ، وأُمِّ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ. وقد سمعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَصيدةَ كَعبِ بنِ زُهَيرٍ، وفيها التَّشْبيبُ بسُعادَ. ولم يَزلِ النَّاسُ يَرْوُونَ أمثالَ هذا، ولا يُنكَرُ. ورَوَينا أَنَّ النُّعمانَ بنَ بَشيرٍ دخلَ مَجلِسًا فيه رَجلٌ يُغنِّيهم بقصيدةِ قَيسِ ابنِ الخَطِيمِ، فلمَّا دَخلَ النُّعمانُ سَكَّتوه من قِبَلِ أَنَّ فيها ذِكرَ أُمِّه، فقالَ النُّعمانُ: دَعُوه، فإنَّه لم يَقُلْ بَأسًا، إنَّما قال:
وعَمْرَةُ مِن سَرَوَاتِ النِّسا
…
ءِ تَنْفَحُ بالمِسْكِ أرْدَانُها (114)
وكان عِمرانُ بنُ طَلحةَ فى مجلسٍ، فغَنَّاهم رَجلٌ بشِعرٍ فيه ذِكْرُ أُمِّه، فسكَّتُوه من
(108) سقط من: الأصل، ب، م.
(109)
فى أ، ب، م:"التشبب".
(110)
فى م: "والإفراط".
(111)
سقط من: الأصل.
(112)
القصيدة فى: السيرة النبوية 2/ 30 - 32، وأولها:
ألَّا بكيتِ على الكرا
…
مِ بنى الكرامِ أُولِى الممادحْ
(113)
قيس بن الخطيم من بنى الأوس، عاش فى الجاهلية، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وقتل قبل الهجرة. انظر مقدمة تحقيق الديوان 7، 8.
(114)
القصة والبيت فى ديوانه 24.