الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب المُكاتَبِ
الكِتابةُ: إعْتاقُ (1) السَّيِّدِ عَبْدَه على مالٍ فى ذِمَّتِه يُؤَدَّى مُؤَجَّلًا؛ سُمِّيَتْ (2) كِتابةً؛ لأنَّ السَّيِّدَ يَكْتُبُ بينَه وبينَه كِتابًا بما اتَّفَقَا عليه. وقيل: سُمِّيَتْ (3) كِتابةً من الكَتْبِ، وهو الضَّمُّ؛ لأنَّ المُكَاتَبَ (4) يَضُمُّ بعضَ النُّجُومِ إلى بعضٍ، ومنه سُمِّىَ الخَرْزُ كِتَابًا؛ لأَنَّه يَضُمُّ أحَدَ الطَّرَفَيْنِ إلى الآخَرِ بخَرْزِه. وقال الحَرِيرِىُّ (5):
وكاتِبِينَ وما خَطَّتْ أنَامِلُهُم
…
حَرْفًا ولا قَرَأُوا ما خُطَّ فى الكُتبِ
وقال ذو الرُّمَّةِ، [فى ذلك المعنى] (6):
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أثْأَى خَوَارِزُهَا
…
مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَها الكُتَبُ (7)
يَصِفُ قِرْبةً يَسِيلُ الماءُ من بين خُرَزِها. وسُمِّيَتِ الكَتِيبةُ كَتِيبةً لانْضِمامِ بَعْضِها إلى بعضٍ، والمُكاتَبُ يَضُمُّ بعضَ نُجُومِه إلى بعضٍ، والنُّجُومُ ههُنا الأوْقاتُ المُخْتلِفةُ؛ لأنَّ العَرَبَ كانت لا تَعْرِفُ الحِسابَ، وإنَّما تعرِفُ الأوْقاتَ بطُلُوعِ النُّجُومِ، كما قال بعضُهم (8):
(1) فى الأصل: "عتاق".
(2)
فى أ، ب:"سمى".
(3)
سقط من: أ، ب.
(4)
فى الأصل: "الكاتب".
(5)
القاسم بن على بن محمد البصرى، صاحب المقامات، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفى سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة. وفيات الأعيان 4/ 63 - 68.
(6)
سقط من: الأصل، أ، ب. والبيت فى ديوانه 1/ 11.
(7)
الوفراء: الواسعة. غرفية: دبغت بالغرف، وهو شجر. أثأى خوارزها: الثأى أن تلتقى الخرزتان فتصيرا واحدة. المشلشل: الذى يكاد يتصل قَطْره. الكُتَب: الخُرَز.
(8)
الرجز غير مَعْزُوٍّ فى: جمهرة اللغة 1/ 62، تهذيب اللغة 6/ 126، المخصص 9/ 16، اللسان والتاج (ح ق ق).
إذا سُهَيْلٌ أَوَّلَ اللَّيلِ طَلَعْ
فابنُ اللَّبُونِ الْحِقُّ والْحِقُّ جَذَعْ (9)
فَسُمِّيَتِ الأوْقاتُ نُجُومًا. والأصْلُ فى الكِتابةِ؛ الكِتَابُ، والسُّنَّةُ، والإِجْماعُ. أمُّا الكِتابُ، فقولُ اللَّه تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (10). وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَى (11) سعيدٌ (12)، عن سُفْيانَ، عنِ الزُّهْرِىِّ، عن نَبْهانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمةَ، عن أُمِّ سَلَمةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إِذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّى، فَلْتَحْتَجبْ مِنْهُ"(13). ورَوَى سَهْلُ بن حُنَيْفٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ أعَانَ غَارِمًا، أوَ غَازِيًا، أو مُكاتَبًا فى كِتَابَتِهِ، أظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"(14). فى أحاديثَ كثيرة سِوَاهما، وأجْمَعَتِ (15) الأُمَّةُ على مَشْرُوعِيّةِ الكِتابَةِ.
فصل: إذا سألَ العبدُ سَيِّدَه مُكاتَبَتَه، اسْتُحِبَّ له إجابَتُه، إذا عَلِمَ فيه خَيْرًا، ولم يَجِبْ ذلك. فى ظاهِرِ المذهبِ. وهو قولُ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ، منهم؛ الحسنُ، والشَّعْبِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وعن أحمدَ، أنَّها واجِبَةٌ، إذا دَعَا العبدُ المُكْتَسِبُ (16) الصَّدُوقُ سَيِّدَه إليها، فعليه إجابَتُه. وهو قولُ عَطاءٍ، والضَّحاكِ، وعمرِو ابن دِينارٍ، وداودَ. وقال إسحاقُ: أخْشَى أن يَأْثَمَ إِنْ لم يَفْعَلْ، ولا يُجْبَرُ عليه. ووَجْهُ ذلك قولُ اللَّه تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} . وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ. ورُوِىَ أَنَّ سِيرِينَ أبا محمدِ بن سِيرِينَ، كان عبدًا لأنَسِ بن مالكٍ، فسأَلَه أَنْ يُكاتِبَه، فأَبَى، فأخْبَرَ
(9) الحق من أولاد الإِبل: الذى بلغ أن يركب ويحمل عليه ويَضْرِب الناقة. والبعير يجذع لاستكماله أربعة أعوام ودخوله فى السنة الخامسة، وهو قبل ذلك حق.
(10)
سورة النور 33.
(11)
فى ب، م:"فما روى".
(12)
تقدم تخريجه، فى: 9/ 125.
(13)
سقط من: الأصل.
(14)
أخرجه الإِمام أحمد، فى: المسند 3/ 487. والبيهقى، فى: باب فضل من أعيان مكاتبا فى رقبته، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 320.
(15)
فى الأصل: "واجتمعت".
(16)
فى الأصل: "المكتتب".
سيرِينُ عمرَ بنَ الخَطَّابِ بذلك، فرَفعَ الدِّرَّةَ على أنسٍ، وقَرَأ عليه:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} . فكاتَبَه أنَسٌ (17). ولَنا، أنَّه إعْتاقٌ بعِوَضٍ، فلم يَجِبْ، كالاسْتِسْعاءِ، والآيةُ مَحْمولةٌ على النَّدْبِ، وقولُ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يُخالِفُ فِعْلَ أنَسٍ. ولا خِلافَ بينَهم فى أَنَّ مَنْ لا خَيْرَ فيه لا تَجِبُ إجَابَتُه. قال أحمدُ: الخَيْرُ صِدْقٌ، وصَلاحٌ، ووَفاءٌ بمالِ الكِتابةِ. ونحوَ هذا قال إبراهيمُ، وعمرُو بن دِينارٍ، وغيرُهما، وعِبارَتُهم فى ذلك مُخْتلِفةٌ، قال ابنُ عباسٍ: غَناءٌ (18)، وإعْطاءٌ للمالِ. وقال مُجاهدٌ: غَناءٌ (18)، وأدأءٌ. وقال النَّخَعِىُّ: صِدْقٌ، ووَفاءٌ. وقال عمرُو ابن دِينارٍ: مالٌ، وصلاحٌ. وقال الشافعىُّ: قُوَّةٌ (19) على الكَسْبِ، وأمانةٌ. وهل تُكْرَه كِتابةُ مَنْ لا كَسْبَ له أو لا؟ قال القاضى: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ كَراهِيَتُه. وكان ابنُ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يَكْرَهُه (20). وهو قولُ مَسْرُوقٍ، والأوْزاعِىِّ. وعن أحمدَ، روايةٌ أُخْرَى، أنَّه لا يُكْرَهُ. ولم يَكْرَهْه الشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وطائِفةٌ من أهْلِ العلم؛ لأنَّ جُوَيْرِيةَ بنتَ الحارِثِ، كاتَبَها ثابتُ بن قيسِ بن شَمَّاسِ الأنْصارِىُّ، فأتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَسْتَعِينُه فى كِتابَتِها، فأدَّى عنها كِتابَتَها، وتَزَوَّجَها (21). واحْتجَّ ابنُ المُنْذِرِ، بأن بَرِيرة كاتَبَتْ ولا حِرْفَةَ لها، ولم يُنْكِرْ ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (22). ووَجْه الأوَّلِ ما ذَكَرْنا فى عِتْقِه، ويَنْبَغِى أن يُنْظَرَ فى المُكاتَبِ، فإنْ كان ممن يتَضَرَّرُ بالكِتابةِ ويَضِيعُ، لِعَجْزِه عن الإِنْفاقِ
(17) ذكره البخارى، فى: باب إثم من قذف مملوكه، من كتاب المكاتب. صحيح البخارى 3/ 198. وأخرجه البيهقى، فى: باب من قال: يجب على الرجل مكاتبة. . .، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 319. وعبد الرزاق، فى: باب وجوب الكناب والمكاتب يسأل الناس، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 371، 372.
(18)
فى ب، م:"عنى".
(19)
فى الأصل: "قدرة".
(20)
أخرجه البيهقى، فى: باب ما جاء فى تفسير قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 318. وعبد الرزاق، فى: باب وجوب الكتاب والمكاتب يسأل الناس، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 374. وابن أبى شيبة، فى: باب من كره أن يكاتب عبده. . .، من كتاب البيوع والأقضية 70/ 23.
(21)
أخرجه أبو داود، فى باب فى بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، من كتاب العتق. سنن أبى داود 2/ 347. والإِمام أحمد، فى: المسند 6/ 277.
(22)
تقدم تحريج حديث بريرة، فى: 6/ 326، 8/ 359، 360.
على نَفْسِه، ولا يَجِدُ مَنْ يُنْفِقُ عليه، كُرِهَتْ كِتابَتُه، وإن كان يَجِدُ مَنْ يَكْفِيه مُؤْنَتَه، لم تُكْرَهُ كتابَتُه؛ لحُصُولِ النَّفْعِ بالحُرِّيَّةِ من غيرِ ضَرَرٍ. فأمَّا جُوَيْرِيَةُ، فإنَّها كانت ذاتَ أهْلٍ (23)، وكانت ابنةَ سَيِّدِ قَوْمِه، فإذا عَتَقَتْ رَجَعَتْ إلى أهْلِها، فأخْلَف اللَّهُ لها خيرًا من أهْلِها، فتزَوَّجَها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصارتْ إحْدَى أُمَّهاتِ المؤمنينَ، وأعْتَقَ الناسُ ما كان بأيْدِيهم من قَوْمِها، حينَ بَلَغَهم أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تزَوَّجَها، وقالوا: أصْهارُ (24) رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. فلم يُرَ امرأةٌ أعْظَمَ بَرَكةً على قَوْمِها منها. وأمَّا بَرِيرَةُ، فإن كِتابَتَها تَدُلُّ على إباحَةِ ذلك، وأنَّه ليس بمُنْكَرٍ (25)، ولا خِلافَ فيه، وإنَّما الخِلافُ فى كَرَاهَتِه (26). قال مَسْرُوقٌ: إذا سألَ العبدُ مَوْلاه الكِتابةَ (27)؛ فإن كان له مَكْسَبةٌ، أو كان له مالٌ، فلْيُكاتِبْه، وإن لم يكُنْ له مالٌ ولا مَكْسَبةٌ، فَلْيُحْسِنْ مَلْكَتَه، ولا يُكَلِّفْهُ إِلَّا طاقَتَه.
فصل: ولا تَصِحُّ الكتابةُ إِلَّا ممَّن يَصِحُّ تَصَرُّفُه فأمَّا المجْنونُ والطِّفلُ، فلا تصِحُّ مُكاتَبَتُهما لرَقِيقِهِما، ولا مُكاتبةُ سَيِّدِهِما لهما، وأمَّا الصَّبِىُّ المُمَيِّزُ؛ فإن كاتَبَ عبدَه بإذْنِ وَلِيِّه (28)، صَحَّ. ويَحْتَمِلُ أَنْ لا يَصِحَّ، بِناءً على قَوْلِنا: إنَّه لَا يَصِحُّ بَيْعُه بإذْنِ وَلِيِّه، ولأنَّ هذا عَقْدُ إعْتاقٍ، فلم يَصِحَّ منه، كالعِتْقِ (29) بغيرِ مالٍ، فأمَّا إن لم يَأْذَنْ وَلِيُّه فيه، فلا يَصِحُّ بحالٍ، وإن كاتَبَ (30) المُمَيِّزُ سَيِّدَه، صَحَّ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشَّافِعىُّ: لا يَصِحُّ فيهما جميعًا بحالٍ؛ لأَنَّه ليس بمكَلَّفٍ، فأشْبَهَ المجنونَ. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ تصرُّفُه (31) وبَيْعُه بإذْنِ ولِيِّه، فصَحَّتْ منه الكتابةُ بذلك، كالمُكَلَّفِ، ودلِيلُ صِحّةِ تَصَرُّفِه قولُ اللَّهِ
(23) فى ب، م زيادة:"ومال".
(24)
فى الأصل: "صاهر".
(25)
فى الأصل: "مكروه".
(26)
فى الأصل: "كراهيته".
(27)
فى أ، م:"المكاتبة".
(28)
فى الأصل: "وصيه".
(29)
فى ب: "كالمعتق".
(30)
فى م: "كان".
(31)
فى ب زيادة: "فيه".
تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (32). والابْتِلاءُ الاخْتِبارُله، بتَفْوِيضِ التصرُّفِ إليه، ليُعْلَمَ هل يَقَعُ منه على وَجْهِ المَصْلَحةِ أو لا؟ وهل يُغْبَنُ فى بَيْعِه وشِرائِه أو لا؟ وِإيجابُ السَّيِّدِ لعبدِه المُمَيِّزِ المُكاتَبةَ إذْنٌ له فى قَبُولِها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنْ كان السَّيِّدُ المُكاتِبُ طِفْلًا أو مجنونًا، فلا لِتَصَرُّفِه ولا قَوْلِه. وإن كاتَبَ المُكَلَّفُ عَبْدَه الطِّفْلَ أو المجنونَ، لم يَثْبُتْ لهذا التَّصَرُّفِ حكمُ الكِتابةِ الصَّحِيحةِ ولا الفاسدةِ؛ لأَنَّه لا حُكْمَ لقَوْلِهما، ولكنْ إِنْ قال: إن أدَّيْتُما إلىَّ، فأنْتُما حُرَّانِ. فأدَّيَا، عَتَقَا (33) بالصِّفَةِ لا بالكِتابةِ (34)، وما فى أَيْدِيهما لسَيِّدِهما، وإن لم يَقُلْ ذلك، لم يَعْتِقَا. ذكره أبو بكرٍ. وقال القاضى: يَعْتِقان. وهو مذهبُ الشَّافِعىِّ؛ لأنَّ الكِتابةَ (34) تتَضَمَّنُ معنى الصِّفَةِ، فيَحْصُلُ العِتْقُ ههُنا بالصّفَةِ المَحْضَةِ، كما لو قال: إن أدَّيْتَ إلىَّ، فأنتَ حُرٌّ. ولَنا، أنَّه ليس بصِفَةٍ صَرِيحًا ولا معنًى، وإنَّما هو عَقْدٌ باطِلٌ، فأشْبَهَ البَيْعَ الباطِلَ.
فصل: وإذا كاتبَ الذِّمِّىُّ عبدَه المسلمَ، صَحَّ؛ لأَنَّه عَقْدُ مُعاوَضةٍ، أو عِتْقٌ بصِفَةٍ، وكِلاهُما يَصِحُّ منه (35). وإذا تَرافَعا إلى الحاكمِ بعدَ الكِتابةِ (36)، نَظَرَ فى العَقْدِ؛ فإن كان مُوافِقًا للشَّرْعِ، أمْضاهُ، سَواءٌ تَرافَعا قبلَ إسْلامِهِما أو بعدَه، وإن كانتْ (37) كتابةً فاسِدةً، مثل أن يكونَ العِوَضُ خَمْرًا، أو خِنْزِيرًا، أو غيرَ ذلك من أنْواعِ الفَسادِ، ففيه ثلاثُ مَسائِلَ؛ إحْداها، أن يكونَا قد تَقابَضا حالَ الكُفْرِ، فتكونَ الكِتابةُ (36) ماضِيَةً، والعِتْقُ حاصلٌ؛ لأنَّ ما تَمَّ فى حالِ الكُفْرِ، لا يَنْقُضُه الحاكمُ، ويَحْكُمُ بالعِتْقِ، سَواءٌ ترَافَعا قبلَ الإِسْلامِ أو بعدَه. الثانية، تَقابضَا بعدَ الإِسلامِ، ثم تَرافَعا إلى الحاكمِ، فإنَّه يَعْتِقُ أيضًا؛ لأنَّ هذه كتابةٌ فاسِدةٌ، ويكونُ حكَمُها حكمَ الكتابةِ الفاسِدَةِ المَعْقودةِ فى الإِسْلامِ، على ما سنَذْكُره، إِنْ شاءَ اللَّهُ تعالى. الثالثة، ترافَعا قبل قَبْضِ العِوضِ الفاسِدِ، أو قَبْضِ بعضِه، فإِنَّ الحاكمَ يَرْفَعُ هذه الكِتابةَ، ويُبْطِلُها (38)؛ لأنَّها كتابةٌ فاسِدةٌ، لم
(32) سورة النساء 6.
(33)
فى م: "عتق".
(34)
فى الأصل: "بالمكاتبة".
(35)
سقط من: الأصل.
(36)
فى الأصل: "المكاتبة".
(37)
فى ب، م:"كاتب".
(38)
فى ب، م:"ويبطل".
يَتَّصِلْ بها قَبْضٌ تَنْبَرِمُ به. ولا فَرْقَ بين إسْلامِهِما، أو إسْلامِ أحَدِهما، فيما ذكرْناه؛ لأنَّ التَّغْلِيبَ لحُكْمِ (39) الإِسلامِ. وقال أبو حنيفةَ: إذا كاتَبَه على خَمْرٍ، ثم أسْلَما (40)، لم يَفْسُدِ العَقْدُ، ويُؤَدِّى قِيمةَ الخمرِ؛ لأنَّ الكِتابةَ (41) كالنِّكاحِ، ولو أمْهَرَها خَمْرًا، ثم أسْلَما، بَطَلَ الخَمْرُ، ولم يَبْطُلِ النِّكاحُ. ولَنا، أَنَّ هذا عَقْدٌ لو عَقَدَه المسلمُ كان فاسِدًا، فإذا أسْلَما قبلَ التَّقابُضِ، أو أحَدُهما، حُكِمَ بفَسادِه، كالبَيْعِ الفاسِدِ، ويُفارِقُ النِّكاحَ، [فى أنَّه](42) لو عَقَدَه المسلمُ بخَمْرٍ (43) كان صحيحًا، وإن أسْلَمَ مُكاتَبُ الذِّمِّىِّ، لم [تَنفَسِخِ الكتابةُ](44)؛ لأنَّها وقَعَتْ صحيحةً، ولا يُجْبَرُ على إزالةِ مِلْكِهِ؛ لأَنَّه خارِجٌ بِالكِتابةِ عن تَصَرُّفِ الكافرِ فيه، فإنْ عَجَزَ، أُجْبِرَ على إزالةِ مِلْكِه عنه حِينَئذٍ. [وإن اشْتَرَى مسلمًا، فكاتَبَه، لم تَصِحَّ الكتابةُ؛ لأنَّ الشِّراءَ باطِلٌ، ولم يَثْبُتْ له به مِلْكٌ. وإن أسْلَم عبدُه فكاتَبَه بعدَ إسلامِه، لم تَصِحَّ كِتابَتُه؛ لأَنَّه يلْزَمُه (45) إزالةُ مِلْكِه عنه، والكِتابةُ لا تُزِيلُ المِلْكَ، فإِنَّ المُكاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِىَ عليه دِرْهَمٌ. وقال القاضى: له كِتابَتُه؛ لأَنَّه يخْرُجُ بها عن تَصَرُّفِ سَيِّدِه فيه، فإن عَجَزَ، عاد رَقِيقًا قِنًّا، وأُجْبِرَ على إزالةِ مِلْكِه عنه حِينَئذٍ](46).
فصل: وإن كاتَبَ الْحَرْبِىُّ عبدَه، صَحَّتْ كِتابَتُه، سَواءٌ كان فى دارِ الحَرْبِ أو دارِ الإِسْلامِ (47). وبهذا قال الشَّافِعِىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مِلْكَه ناقِصٌ. وحكى عن مالكٍ، أنَّه لا يَمْلِكُ، بدَلِيلِ أَنَّ [المُسْلِمَ يَمْلِكُه](48) عليه. ولَنا، قولُ اللَّه تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} (49). وهذه الإِضافةُ إليهم (50) تَقْتَضِى
(39) فى الأصل: "بحكم".
(40)
فى الأصل: "أسلم".
(41)
فى الأصل: "الكاتبة".
(42)
فى أ، ب، م:"فإنه".
(43)
فى الأصل: "وصح".
(44)
فى الأصل: "تفسخ الكاتبة".
(45)
فى أ، ب، م:"يلزم".
(46)
سقط من: ب. نقل نظر.
(47)
فى الأصل: "السلام".
(48)
فى أ، م:"للمسلم تملكه".
(49)
سورة الأحزاب 27.
(50)
سقط من: ب.
صِحّةَ أمْلاكِهِم، فتَقْتَضِى صِحَّةَ تَصَرُّفاتِهِم. فإذا ثَبَتَ هذا، فإذا كاتَبَ عبدَه، ثم دَخَلَا مُسْتَأْمِنَيْنِ إلينا، لم يتَعَرَّض الحاكمُ لهما، وإن ترَافَعا إليه، نَظَرَ بينهما، فإن كانت كِتابَتُهما صَحِيحةً، ألْزَمَهُما حُكْمَها، وإن كانتْ فاسِدةً، بَيَّنَ لهما فَسادَها. وإن جاءا، وقد قَهَرَ أحَدُهما صاحِبَه، بَطَلَتِ الكتابةُ؛ لأنَّ العبدَ إِنْ قَهَرَ سَيِّدَه مَلَكَه، فبَطَلَتْ كِتابَتُه؛ لخُرُوجِهَ (51) عن مِلْكِ سَيِّده، وإن قَهَرَه السَّيِّدُ على إبْطالِ الكِتابةِ، ورَدَّه رَقِيقًا، بَطَلَتْ؛ لأنَّ دارَ الكُفْرِ دارُ قَهْرٍ وإباحةٍ، ولهذا لو قَهَرَ حُرٌّ حُرًّا على نَفْسِه مَلَكَه. وإن دَخَلَا من غير قَهْرٍ، فقَهَرَ أحَدُهما الآخَرَ فى دارِ الإِسْلامِ، لم تَبْطُل الكتابةُ، وكانا على ما كانا عليه قبلَه؛ لأنَّ دارَ الإِسلامِ دارُ حَظْرٍ، لا يُؤَثِّرُ فيها القَهْرُ إِلَّا بالحَقِّ. وإن دخَلَا مُسْتَأْمِنَيْنِ، ثم أرادَ الرُّجوعَ إلى دارِ الحربِ، لم يُمْنَعَا. وإن أراد السَّيِّدُ الرُّجوعَ، وأخْذَ المُكاتَبِ معه، فأبَى المُكاتَبُ الرُّجوعَ معه، لم يُجْبَرْ؛ لأَنَّه بالكِتابةِ زال سُلْطانُه (52) عنه، وإنَّما له فى ذِمَّتِه حَقٌّ، ومَنْ له دَيْنٌ (53) فى ذِمّةِ غيرِه بحَقِّ (54)، لا يَمْلِكُ إجْبارَه على السَّفَرِ معه لأجْلِه، ويقال للسَّيِّدِ: إن أرَدْتَ الإِقامةَ فى دارِ الإِسلامِ، لتَسْتَوْفِىَ مالَ الكِتابةِ، فاعْقِدِ الذِّمَّةَ وأقِمْ، إن كانت مُدَّتُها طويلةً، وإن أرَدْتَ تَوْكيلَ مَنْ يَقْبِضُ لك نُجومَ الكتابةِ، فافْعَلْ. فإذا أدَّى نُجومَ الكتابةِ، عَتَقَ، ثم هو مُخَيَّرٌ؛ إن أحَبَّ المُقامَ (55) فى دارِ الإِسلامِ، عَقَدَ على نَفْسِه الذِّمَّةَ، وإن أحَبَّ الرُّجوعَ، لم يُمْنَعْ. وإن عَجَزَ، وفَسَخَ السَّيِّدُ كِتَابتَه، عاد رَقِيقًا، ويُرَدُّ إلى سَيِّدِه، والأمانُ له باقٍ؛ لأَنَّه مِن مالِ سَيِّدِه، وسَيِّدُه عَقَدَ الأمانَ لنفسِه ومالِه، فإذا انْتَقَضَ الأمانُ فى نَفْسِه، بعَوْدِه، لم ينْتَقِضْ فى مالِه. وإن كاتَبَه فى دارِ الحربِ، فهَرَبَ، ودَخَلَ إلينا، بَطَلَتِ الكتابةُ؛ لأنَّ (56) مِلْكَه زال عنه بقَهْرِه على نفسِه، فأشْبَهَ ما لو قَهَرَه على غيرِه من مالِه. وسَواءٌ جاءَنا مُسْلِمًا أو غيرَ
(51) فى ب: "بخروجه".
(52)
فى م: "ملكه وسلطانه".
(53)
سقط من: م.
(54)
سقط من: أ. وفى م: "حق".
(55)
فى م: "أن يقيم".
(56)
فى م: "فإن".
مسلمٍ. وإن جاءنا (57) بإذْنِ سَيِّدِه، فالكِتابةُ بحالِها؛ لأَنَّه لم يَقْهَرْ سَيِّدَه، فإذا دخَلَ إلينا بأمانٍ بإذْنِ سَيِّدِه، ثم سَبَى المسلمون سَيِّدَه وقُتِلَ، انْتقَلتِ الكِتابةُ إلى وَرَثَتِه، كما لو مات حَتْفَ أنْفِه، وإن مَنَّ عليه الإِمامُ، أو فَاداهُ، أو هَرَبَ، فالكِتابةُ بحالِها، وإن اسْتَرَقَّه الإِمامُ، فالمُكاتَبُ مَوْقُوفٌ، إن عَتَقَ سَيِّدُه، فالكِتابةُ بحالِها، وإن مات أو قُتِلَ، فالمُكاتَبُ للمسلمينَ، مُبْقًى على ما بَقِىَ مِن كِتابَتِه، يَعْتِقُ بأدائِه إليهم، ووَلاؤُه لهم، وإن عَجَزَ، فهو رَقِيقٌ لهم. وإِنْ أراد المُكاتَبُ الأداءَ قبلَ عِتْقِ سَيِّدِه ومَوْتِه، أدَّى إلى الحاكِم، أو إلى أمِينِه، وكان المالُ المقْبُوضُ مَوْقُوفًا، على ما ذكرْناه، ويَعْتِقُ المكاتَبُ بالأداءِ، وسَيِّدُه رَقِيقٌ، لا يَثْبُتُ له وَلاءٌ. قال أبو بكر: يكونُ الولاءُ للمسلمينَ. وقال القاضى: يكونُ مَوْقُوفًا، فإن عَتَقَ سَيِّدُه، فهو له، وإن مات على رِقِّه، فهو للمسلمينَ. وإِنْ كان اسْتِرقاقُ سَيِّدِه بعدَ عِتْقِ المُكاتَبِ، وثُبُوتِ الوَلاءِ عليه، فقال القاضى: يكونُ وَلاؤُه مَوْقوفًا، فإن عَتَقَ السَّيِّدُ، كان الولاءُ له، وإن قُتِلَ أو مات على رِقِّه، بَطَلَ الوَلاءُ؛ لأَنَّه رَقِيقٌ، لا يُورَثُ، فيَبْطلُ الوَلاءُ، لعَدَمِ مُسْتَحِقِّه. ويَنْبَغِى أن يكونَ للمسلمينَ؛ لأنَّ مالَ مَنْ لا وارِثَ له للمسلمينَ، فكذلك الوَلاءُ. واللَّهُ أعلمُ.
فصل: وإن كاتَبَ المُرْتَدُّ عبدَه، فعلى قولِ أبى بكرٍ: الكتابةُ باطلةُ؛ لأنَّ مِلْكَه زالَ برِدَّتِه. وعلى الظاهرِ من المذهبِ، كتابَتُه مَوقُوفةٌ؛ إن أسْلَم تَبَيَّنَّا أنَّها كانت صحيحةً، وإن قُتِلَ أو مات على رِدَّتِه، بَطَلَتْ. وإن أدّى فى رِدّتِه، لم يُحْكَمْ بعِتْقِه، ويكونُ مَوْقوفًا، فإن أسْلَمَ سَيِّدُه، تَبَيَّنَّا صِحَّةَ الدَّفْعِ إليه وعِتْقِه، وإن قُتِلَ أو مات على رِدَّتِه، فهو باطِلٌ، والعبدُ رَقِيقٌ. وإن كاتَبَه، وهو مسلمٌ، ثم ارْتَدَّ، وحُجِرَ عليه، لم يَكُنْ للعبدِ الدَّفْعُ إليه، ويُؤَدِّى إلى الحاكمِ، ويَعْتِقُ بالأداءِ. وإن دَفَعَ إلى المُرْتَدِّ، كان مَوْقوفًا، كما ذكرْنا. وإن كاتَبَ المسلمُ عبدَه المُرْتَدَّ، صَحَّتْ كتابَتُه؛ لأَنَّه يَصِحُّ بَيْعُه، فإذا أدَّى، عَتَقَ، وإن أسْلَمَ، فهو على كِتابَتِه.
فصل: وكتابةُ المريضِ صَحِيحةٌ، فإن كان مَرَضُ المَوْتِ الْمَخُوفُ، اعْتُبِرَ مِن ثُلثِه؛ لأَنَّه بَيْعُ مالِه بمالِه، فجَرَى مَجْرَى الهِبَةِ، كذلك يَثْبُتُ (58) الوَلَاءُ على المُكاتَبِ؛
(57) فى الأصل، أ، ب:"جاء".
(58)
فى الأصل: "ثبت".