الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُخلِّفُ تَرِكةً فلا تصِلُ إليه، فلا يَلْزمُه الإيفاءُ منه، فإن لم يُحْسِنِ المُدَّعِى تحريرَ الدَّعوَى، فهل للحاكِمِ أن يُلَقِّنَه تحْريرَها؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن؛ أحدُهما، يجوزُ؛ لأنَّه لا ضَررَ على صاحبِه فى ذلك. والثانى، لا يَجوزُ؛ لأنَّ فيه إعانةَ أحدِ الخَصْمَينِ فى حُكومَتِه.
فصل:
إذا حرَّرَ المُدَّعِى دَعْواه، فللحاكمِ أن يسْألَ خَصْمَه الجوابَ قبلَ أن يَطلُبَ منه المُدَّعِى ذلك؛ لأنَّ شاهدَ الحالِ يَدلُّ عليه؛ لأنَّ إحْضارَه والدَّعوَى إنَّما يُرادُ لِيَسْألَ الحاكمُ المُدَّعَى عليه، فقد أغْنَى ذلك عن سُؤالِه، فيقولُ لخَصْمِه: ما تقولُ فيما يدَّعيه؟ فإن أقَرَّ لَزِمَه، وليس للحاكمِ أن يَحْكُمَ عليه إلَّا بمَسْألةِ المُقَرِّ له؛ لأنَّ الحُكْمَ عليه حقٌّ له، فلا يَسْتَوْفِيه إلَّا بمسألةٍ مُسْتحَقَّةٍ، هكذا ذكرَ أصْحابُنا. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ له الحكمُ عليه قبلَ مَسألةِ المُدَّعِى؛ لأنَّ الحالَ تدُلُّ على إرادتِه ذلك، فاكْتُفِىَ بها، كما اكْتُفِىَ بها فى مَسْألةِ المُدَّعَى عليه الجوابَ، ولأنَّ كثيرًا من الناس لا يَعْرفُ مُطالَبةَ الحاكِم بذلك، فيَتْرُكُ مُطالبتَه به لجَهْلِه، فيَضيعُ حقُّه، فعلى هذا يجوزُ له الحكمُ قبلَ مَسْألتِه. وعلى القولِ الأوَّلِ، إن سألَه الخَصْمُ فقال: احْكُمْ لى. حكمَ عليه، والحُكْمُ أن يقولَ: قد ألْزَمْتُك ذلك، أو قضيْتُ عليك له. أو يقولَ: اخْرُجْ له منه. فمتى قال له أحدَ هذه الثَّلاثةِ، كان حُكْمًا بالحقِّ، وإن أنكرَ فقال: لا حقَّ لك قِبَلى. فهذا مَوْضِعُ البَيِّنةِ، قال الحاكمُ: ألكَ بَيِّنَةٌ؟ لما رُوِىَ أنَّ رَجلَيْن اخْتصَما إلَى النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم؛ حَضْرَمِىٌّ وكِنْدىٌّ، فقال الحَضْرَمىُّ: يا رسولَ اللَّه، إنَّ هذا غلبَنى على أَرضٍ لى. فقال الكِنْدِىُّ: هى أرْضِى، وفى يَدِى، فلَيس (45) له فيها حقٌّ. فقال النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم للحَضْرَمِىِّ:"أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قال: لا. قال: "فَلَكَ يَمِينُهُ"(46). وهو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وإن كان المُدَّعِى عارِفًا بأنَّه مَوْضِعُ البَيِّنَةِ، فالحاكمُ مُخيَّرٌ بين أنْ يقولَ: ألك بيِّنةٌ؟ وبين أن يسْكُتَ، فإذا قال له: ألكَ بَيِّنَةٌ؟ فذكرَ أنَّ له بَيِّنَةً حاضِرةً، لم يقُلْ له الحاكم: أحضِرْها. لأنَّ ذلك حقٌّ له، [فله أنْ](47) يفْعلَ ما يرَى. وإذا أحْضَرَها لم يَسألْها الحاكمُ عمَّا عندَها حتى يسْألَه المُدَّعِى ذلك؛
(45) فى م: "وليس".
(46)
تقدم تخريجه، فى: صفحة 32.
(47)
سقط من: الأصل. وفى ب: "له أن".
لأنَّه حَقٌّ له فلا [يسألُه، ولا](48) يَتصرَّفُ فيه مِن غيرِ إذْنِه، فإذا سألَه المدَّعى سُؤالَها، قال: مَن كانتْ عندَه شَهادةٌ فَلْيذكرْها (49)، إن شاءَ؟ . ولا يقولُ لهما: اشْهَدَا. لأنَّه أمرٌ. وكان شُرَيْحٌ يقولُ للشاهِدَيْنِ: ما أنا دَعوتُكُما، ولا أنْهاكُما أنْ تَرجِعا، وما يَقضِى على هذا المُسْلمِ غيرُكُما، وإنِّى بكما أقْضِى اليومَ، وبكما أتَّقِى يومَ القيامةِ (50). وإن رأَى الحاكمُ عليهما ما يُوجِبُ رَدَّ شَهادتِهما، ردَّها. كما رُوىَ عَن شُرَيْحٍ، أنَّه شَهِدَ عندَه شاهِدٌ، وعليه قَباءٌ مَخْروطُ الكُمَّينِ، فقال له شُرَيْحٌ: أتُحْسِنُ أن تتَوَضَّأَ؟ قال: نعم. قال: فاحْسِرْ عن ذِراعَيْك. فذهبَ يَحْسِرُ عنهما، فلم يَسْتطِعْ، فقال له شُرَيْحٌ: قُمْ، فلا شَهادةَ لك (51). وإن أدَّيا الشَّهادةَ على غيرِ وجهِها، مثلَ أن يَقُولا: بلَغَنا أنَّ عليه ألْفًا، أو سَمِعْنا ذلك. رَدَّ (52) شَهادتَهما. وشهدَ رجلٌ عندَ شُرَيْحٍ، فقال: أشهَدُ أنَّه اتَّكأَ عليه بمِرْفَقِه حتى ماتَ. فقال شريحٌ: أتشْهَدُ أنَّه قتلَه؟ قال: أشْهَدُ أنَّه اتَّكأَ عليه بمِرْفَقِه حتى ماتَ. [قال: أتشْهَدُ أنَّه قتلَه؟ قال: أشْهَدُ أنَّه اتَّكأَ عليه بمِرْفَقِه حتى ماتَ](53). قال: قُمْ، لا شَهادةَ لك (51). وإن كانت شهادةً صحيحةً، وعَرَفَ الحاكمُ عَدالتَهم، قال للمشْهودِ عليه: قد شَهِدَا عليك، فإن كان عندَك ما يقْدَحُ فى شَهادتِهما، فبيِّنْهُ عندِى. فإن سألَ الإِنْظارَ، أنظرَه اليومَينِ والثلاثةَ. فإنْ لم يَجْرَحْ حَكمَ عليه؛ لأنَّ الحقَّ قد وَضَحَ (54) على وَجْهٍ لا إشْكالَ فيه. وإن ارْتابَ بشَهادتِهم، فرَّقَهم، فسألَ كلَّ واحدٍ عن شَهادتِه وصِفَتِها، فيقولُ: كنتَ أوَّلَ مَن شَهِدَ، أو كتبتَ، أو لم تكتبْ، وفى أىِّ مكانٍ شهِدتَ، وفى أىِّ شهرٍ، وأىِّ يومٍ؟ وهل كنتَ وحدَك، أو معكَ غيرُك؟ فإن اخْتلَفوا، سقَطتْ شَهادتُهم، وإن اتَّفقُوا بحَثَ عن عَدالتِهم. ويقالُ: أوَّلُ مَن فعلَ هذا
(48) سقط من: الأصل.
(49)
فى الأصل: "فليذكر".
(50)
تقدم فى صفحة 52.
(51)
أخبار القضاة 2/ 300.
(52)
فى أ، ب، م:"ردت".
(53)
سقط من: الأصل. نقل نظر.
(54)
فى ب زيادة: "له".
دَنيالُ. ويقالُ: فعلَه سليمانُ، وهو صَغِيرٌ. ورُوىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ سَبعةَ نفرٍ خرَجوا، ففُقِدَ وَاحدٌ منهم، فأتَت زَوْجتُه عليًّا، فدَعا السِّتَّةَ، فسألَهم عنه، فأنْكَروا، ففرَّقَهم، وأقامَ كلَّ واحدٍ عندَ سَارِيَةٍ، ووكَّل به (55) مَن يَحْفَظُه، ودعَا واحدًا منهم، فسألَه فأنكرَ، فقال: اللهُ أكبر. فظَنَّ الباقون أنَّه قد اعْترفَ، فدَعاهم، فاعْترَفوا، فقال للأوَّلِ: قد شَهِدُوا عليك، وأنا قاتلُك. فاعْتَرفَ، فقتلَهم. وإن لم يَعْرِفْ عَدالتَهما، بحَثَ عنها، فإن لم تَثْبُتْ عَدالتُهما، قال للْمدَّعِى: زِدْنِى شُهودًا. وإن لم (56) تكنْ له بَيِّنةٌ، عرَّفَه الحاكمُ أنَّ لك يَمِينَه. وليس للحاكِم أن يسْتَحْلِفَه قبلَ مَسْألةِ المُدَّعِى؛ لأنَّ اليَمِينَ حَقٌّ له، فلم يَجُزِ اسْتيفاؤُها مِن غيرِ مُطالَبةِ مُسْتَحقِّها، كَنفْسِ الحقِّ. فإن اسْتحْلفَه مِن غيرِ مَسألةٍ، أو بادرَ المُنْكِرُ فحلَفَ، لم يُعْتَدَّ بيَمِينِه؛ لأنَّه أتَى بها فى غيرِ وَقْتِها. وإذا سألَها (57) المُدَّعِى، أعادَها له؛ لأنَّ الأولَى لم تكُنْ يَمِينَه. وإن أمْسَكَ المُدَّعِى عن إحْلافِ المُدَّعَى عليه، ثم أرادَ إحْلافَه بالدَّعْوَى المُتقدِّمةِ، جازَ؛ لأنَّه لم يُسْقِطْ حقَّه منها، وإنما أخَّرَها. وإنْ قال: أبرأْتُك مِن هذه اليَمِينِ. سقطَ حَقُّه منها فى هذه الدَّعْوَى، وله أن يَسْتأنِفَ الدَّعوَى؛ لأنَّ حقَّه لا يَسْقُطُ بالإِبرْاءِ من اليَمِينِ. فإن اسْتأْنفَ الدَّعوَى، فأنْكَرَ المُدَّعَى عليه، فله أن يُحَلِّفَه؛ لأنَّ هذه الدَّعْوَى غيرُ الدَّعوَى التى أبْرَأَه فيها مِن اليَمِينِ، فإن حلفَ سقطَتِ الدَّعْوى، ولم يكُنْ للمُدَّعِى أن يُحَلِّفَه يَمِينًا أُخْرَى، لا فى هذا المجلسِ، ولا فى غيرِه. وإن كان الحقُّ لجماعةٍ فرَضُوا بيَمِينٍ واحدٍ، جازَ، وسقَطَتْ دَعْواهم باليَمِينِ؛ لأنَّها حقُّهم؛ ولأنَّه لمَّا جازَ ثُبوتُ الحقِّ ببَيِّنةٍ واحدةٍ لجماعةٍ، جازَ سُقوطُه بيَمِينٍ واحدةٍ. قال القاضى: ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَصِحَّ حتى يَحْلِفَ لكلِّ واحدٍ يَمِينًا. وهو أحدُ الوَجهيْن لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ اليَمِينَ حُجَّةٌ فى حقِّ الواحدِ، فإذا رَضِىَ بها اثنان، صارتِ الحُجَّةُ فى حقِّ كلِّ واحدٍ منهما ناقصةً، والحُجَّةُ النَّاقصةُ لا تَكْمُلُ برِضَى الخَصْمِ، كما لو رَضِىَ أن يَحْكُمَ عليه بشاهدٍ واحدٍ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الحقَّ لهما،
(55) سقط من: ب.
(56)
سقط من: م.
(57)
فى الأصل: "سأله".
فإذا رَضِيَا به، جازَ، ولا يَلْزَمُ مِن رِضاهما بيَمِينٍ واحدةٍ، أن يكونَ لكلِّ واحدٍ بعضُ اليَمِينِ، كما أنَّ الحقوقَ إذا قامتْ بها بيِّنَةٌ واحدةٌ، لا يكونُ لكلِّ حقٍّ بعضُ البَيِّنَةِ، فأمَّا إنْ حلَّفَه لجميعِهم يَمِينًا واحدةً بغيرِ رِضاهُم، لم تَصِحَّ يَمِينُه. بلا خِلافٍ نَعْلَمُه. وقد حكَى الإِصْطَخْرىُّ، أنَّ إسماعيلَ بنَ إسحاقَ القاضىَ، حلَّفَ رجلًا بحَقٍّ لرجليْن يَمِينًا واحدةً، فخطَّأَه أهلُ عصرِه (58). وإن قال المُدَّعِى: لى بَيِّنَةٌ غائبةٌ. قال له الحاكمُ: لك يَمِينُه، فإن شئْتَ فاسْتحلِفْه، وإن شئْتَ أخَّرْتُه إلى أن تُحْضِرَ بَيِّنتَك، وليس لك مُطالَبتُه بكَفيلٍ، ولا مُلازَمتُه حتى تُحْضِرَ البَيِّنَة. نصَّ عليه أحمدُ. وهو مذهبُ الشَّافعىِّ؛ لقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ"(59). فإن أحْلَفَه (60)، ثم حضَرَتْ بيِّنَتُه، حكمَ بها، ولم تكُنِ اليَمِينُ (61) مُزيلَةً للحقِّ؛ لأنَّ اليَمِينَ إنما يُصارُ إليها عندَ عَدَمِ البَيِّنةِ، فإذا وُجدَتِ البَيِّنَةُ بطَلَتِ اليَمِينُ، وتَبَيَّنَ كَذِبُها. وإن قال: لى بَيِّنَةٌ حاضرَةٌ، وأُرِيدُ يَمِينَه ثم أُقيمُ بيِّنتى. لم يَمْلِكْ ذلك. وقال أبو يوسفَ: يَسْتَحْلِفُه، وإن نَكَلَ قضَى عليه؛ لأنَّ فى الاسْتِحلافِ فائدةً، وهو أنَّه ربَّما نَكَلَ، فقضَى عليه، فأغْنَى عن البَيِّنَةِ. ولَنا، قولُه عليه السلام:"شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ إلَّا ذَلكَ". و "أو" للتَّخْيِيرِ بين شَيْئَينِ، فلا يكونُ له الجَمْعُ بينهما، ولأنَّه أَمْكنَ فَصْلُ الخُصومَةِ بالبَيِّنَةِ، فلم يُشْرَعْ غيرُها مع إرادةِ المُدَّعِى إقامتَها وحُضورَها، كما لو [لم يَطْلُبْ](62) يَمِينَه، ولأنَّ اليَمِينَ بَدَلٌ، فلم يَجِبِ الجمعُ بينها وبين مُبْدَلِها، كسائرِ الأبْدالِ مع مُبدلاتِها. وإن قال المُدَّعِى: لا أُرِيدُ إقامتَها، وإنَّما أُرِيدُ يَمِينَه أَكْتَفِى بها. اسْتُحْلِفَ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ حَقُّه، فإذا رَضِىَ بإسْقاطِها، وتَرْكِ إقامَتِها، فله ذلك، كنَفْسِ الحقِّ. فإن حلَفَ المُدَّعَى عليه، ثم أرادَ المُدَّعِى إقامةَ بَيِّنَتِه، فهل يَمْلكُ ذلك؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن؛ أحدهما، له ذلك؛ لأنَّ البَيِّنَةَ لا تَبْطُلُ بالاسْتِحْلافِ، كما لو كانتْ غائبةً. والثانى، ليس
(58) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 3/ 332، 333.
(59)
تقدم تخريجه، فى: صفحة 32.
(60)
فى ب: "حلفه".
(61)
سقط من: م.
(62)
فى الأصل: "بطلت".