الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما لا يجوزُ له، وتكرَّر ذلك منه، رُدَّتْ شَهادتُه؛ لأَنَّه مُصِرٌّ على الحَرامِ.
فصل:
ومَن فعلَ شيئًا مِن الفُروعِ مُختَلَفًا فيه، مُعْتِقدًا إباحتَه، لم تُرَدَّ شهادتُه، كالمتزوِّجِ بغيرِ وَلىٍّ، أو بغيرِ شُهودٍ، وآكِلِ مَتْروكِ التَّسْمِيَةِ، وشارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ. نَصَّ عليه أحمدُ، فى شاربِ النَّبيذِ، يُحَدُّ، ولا تُرَدُّ، شَهادتُه. وبهذا قالَ الشَّافعىُّ. وقال مالكٌ: تُرَدُّ شهادتُه؛ لأَنَّه فَعلَ ما يَعْتقِدُ الحاكِمُ تحْرِيمَه، فأشْبَهَ المُتَّفَقَ على تَحْريمِه. ولَنا، أَنَّ الصَّحابةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، كانوا يَخْتَلِفون فى الفُروعِ، فلم يَكُنْ بَعضُهم يَعِيبُ مَن خالَفَه، ولا يُفَسِّقُه، ولأنَّه فَرْعٌ (140) مُخْتَلفٌ فيه، فلم تُرَدَّ شهادةُ فاعلِه، كالذى يوافِقُه عليه الحاكمُ. وإن فعلَ ذلك مُعْتقِدًا تحْريمَه، رُدَّتْ شهادتُه (141) إذا تَكرَّرَ. وقال أصحابُ الشَّافعىِّ: لا تُرَدّ شَهادتُه به؛ لأَنَّه فِعلٌ لا تُرَدُّ به شهادةُ بعضِ النَّاسِ، فلا تُرَدَّ به شهادةُ البعضِ الآخَرِ، كالمُتَّفَقِ على حِلِّه. ولَنا، أنَّه فِعْلٌ يَحْرُمُ على فاعلِه، ويَأْثَمُ به، فأشْبَهَ المُجْمَعَ على تَحْريمِه، وبهذا فارَقَ مُعتَقِدَ حِلِّه. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، فى منَ يجبُ عليه الحَجُّ فلا يَحجُّ: تُرَدُّ شهادتُه. وهذا يُحْمَلُ على مَن اعْتقَدَ وُجوبَه على الفَوْرِ. فأمَّا مَن يَعْتقِدُ أنَّه على التَّراخِى، ويَتْرُكُه بِنيَّةِ فِعْلِه، فلا تُرَدُّ شَهادتُه، كسائرِ ما ذكرْنا. ويَحْتَمِلُ أن تُرَدَّ شهادتُه مُطلقًا؛ لقولِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا"(142). وقال عُمرُ: لقد هَممْتُ أن أنظُرَ فى النَّاسِ، فمَن وَجَدْتُه يَقْدِرُ على الحَجِّ ولا يَحَجُّ، ضَربْتُ عليه الجِزْيةَ، ثم قال: ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
1891 - مسألة؛ قال: (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ، فِى الْوَصِيَّةِ فِى السَّفَرِ، إذا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ)
وجملتُه، أنَّه إذا شهِدَ بوَصِيَّةِ المُسافِرِ الذى ماتَ فى سَفَرِه شاهِدانِ مِن أهلِ الذِّمَّةِ، قُبِلَتْ شَهادتُهما، إذا لم يُوجَدْ غَيرُهما، ويُسْتَحْلَفانِ بعدَ العَصْرِ ما خَانا ولا كَتَما، ولا
(140) فى أ، ب، م:"نوع".
(141)
فى م: "شهادة به".
(142)
تقدم تخريجه، فى: 5/ 37.
اشْتَرَيا بهَ ثَمَنًا قَلِيلًا {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} (1). قال ابنُ المُنذرِ: وبهذا قالَ أكابر الماضِين. يَعنى الآيةَ التى فى سُورَةِ المائدةِ. وممَّن قالَه شُرَيْحٌ، والنَّخَعِىُّ، والأوْزاعىُّ، ويحيى بنُ حَمزَةَ (2). وقَضَى بذلك ابنُ مَسعودٍ، وأبو موسى، رَضِىَ اللَّهُ عنهما (3). وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ؛ والشَّافعىُّ: لا تُقْبَلُ؛ لأنَّ مَن لا تُقبَلُ شَهادتُه [على غيرِ الوَصيَّةِ، لا تُقْبَلُ فى الوصِيَّةِ؛ كالفاسِقِ (4) لا تُقْبَلُ شَهادتُه](5)، فالكَافِرُ أوْلَى. واخْتلَفوا فى تَأْويلِ الآيةِ؛ فمنهم مَن حَمَلَها على التَّحمُّلِ دونَ الأداءِ، ومِنهم مَن قال: المُرادُ بقولِه: {مِنْ غَيْرِكُمْ} (1). أى مِن غَيرِ عَشِيرَتِكم. ومنهم مَن قال: الشَّهادةُ فى الآيةِ اليَمِينُ. ولَنا، قول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} . الآية (1). وهذا نصُّ الكِتابِ، وقد قَضَى به (6) رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصْحابُه، فرَوَى ابنُ عباسٍ، قال: خرجَ رجلٌ مِن بنى سَهْمٍ مِع تَمِيمِ الدَّارِىِّ، وعَدِىِّ بنِ زَيدٍ، فماتَ السَّهْمِىُّ بأرضٍ ليس بها مُسْلمٌ، فلما قَدِما بتَرِكَتِه فَقَدُوا (7) جَامَ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا (8) بالذَّهبِ، فأحْلَفَهما رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم وَجَدُوا الجَامَ بمَكَّةَ، فقالوا: اشْتَرْيناه مِن تَمِيمٍ وعَدِىٍّ، فقامَ رجلان مِن أوْلياءِ السَّهْمِىِّ، فحلَفا باللَّهِ:
(1) سورة المائدة 106.
(2)
يحيى بن حمزة بن واقد، قاضى دمشق، ثقة، كثير الحديث، توفى سنة ثلاث وثمانين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 314، 315.
(3)
أخرجه عن شريح وأبى موسى، البيهقى، فى: باب من أجاز شهادة أهل الذمة. . .، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 166. وعبد الرزاق، فى: باب شهادة أهل الكفر عل أهل الإِسلام، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 360. والطبرى، فى: تفسير الآية. تفسير الطبرى 7/ 105. كما أخرجه عن شريح وكيع، فى: أخبارة القضاة 2/ 281. ويأتى أثر ابن مسعود فى آخر المسألة.
(4)
فى أزيادة: "ولأن الفاسق".
(5)
سقط من: الأصل. نقل نظر.
(6)
سقط من: م.
(7)
فى الأصل: "فقد".
(8)
محوَّص: مُزَيَّن.
لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنّ الجامَ لصاحبِهم. فنزلَتْ فيهم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية. وعن الشَّعْبىِّ أن رَجلًا مِن المُسلمين حَضَرتْه الوَفاةُ بِدَقُوقُا (9)، ولم يَجِدْ أحدًا من المُسلمين يُشْهِدُه على وَصيَّتِه، فأشْهدَ رجلَينِ مِن أهلِ الكِتابِ، فقَدِما الكُوفةَ، فأَتَيا الأشْعَرِىَّ، فأَخْبَراه، وقَدِما بتَرِكَتِه ووَصيَّتِه، فقالَ الأشْعَرىُّ: هذا أمرٌ لم يَكُنْ بعدَ الذى كان فى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأحْلَفَهما بعدَ العَصرِ ما خانا، ولا كَذَبَا، ولا بَدَّلا، ولا كَتَما، ولا غَيَّرا، وأنَّها لَوَصَّةُ الرّجلِ، وتَرِكَتُه، فأمْضَى شَهادتَهما. روَاهُما أبو دَاودَ، فى "سُنَنِه"(10). ورَوَى الْخَلَّالُ حديثَ أبى موسى بإسْنادِه. وحَمْلُ الآيةِ على أنَّه أرادَ مِن غيرِ عشيرَتِكمِ، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الآيةَ نزلَتْ فى قِصَّةِ (11) عَدَىٍّ وتَمِيمٍ، بلا خِلافِ بين المُفَسِّرينَ، وقد فسَّرَهَا بما قُلنا سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وابُن سِيرِينَ، وعَبِيدةُ، وسَعيدُ بنُ جُبيرٍ، والشَّعْبىُّ، وسُليمانُ التَّيمىُّ، وغيرُهم، ودلَّتْ عليه الأحاديثُ التى رَوَيناها. ولأنَّه لو صَحَّ ما ذكروه، لم تَجِبِ الأَيْمان؛ لأنَّ الشَّاهديْنِ من (12) المسلمِينَ لا قَسَامَةَ عليهم. وحَمْلُها على التَّحمُّلِ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّه أمرَ بإحْلافِهم، ولا أيْمانَ فى التَّحمُّلِ. وحَمْلُها على اليَمينِ لا يَصِحُّ؛ لقولِه:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} . الآية. ولأنه عَطفَها على ذَوِىِ العَدْلِ من المُؤمنينَ، وهما شَاهِدان. ورَوَى أبو عُبَيد، فى "النَّاسخِ والمَنْسوخِ" (13) أَنَّ ابنَ مَسعودٍ قَضَى بذلك فى زَمنِ عُثمانَ. قال أحمدُ: أهلُ المَدينةِ ليس عِندَهم حديثُ أبى مُوسى، مِن أين يَعْرِفونَه؟ فقد ثَبَتَ هذا الحُكمُ بكتابِ اللَّهِ، وقَضاءِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقَضاءِ الصَّحابةِ به (14)، وعمَلِهم بما ثَبَتَ (14) فى الكِتابِ والسُّنَّةِ، فتَعيَّنَ المَصِيرُ إليه،
(9) دقوقا: مدينة بين إربل وبغداد. معجم البلدان 2/ 581.
(10)
فى: باب شهادة أهل الذمة .. .، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 276.
وأخرج الأول الترمذى، فى: باب تفسير سورة المائدة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 182 - 184.
(11)
فى أ، ب، م:"قضية".
(12)
سقط من: أ.
(13)
الناسخ والمنسوخ 213 - 215.
(14)
سقط من: ب.