الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: "أرَضِيتُم؟ " قالوا: لا. فهمَّ بهمُ المُهاجرون، فنَزلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فأعْطاهم، ثم صَعَدَ، فخَطَبَ الناسَ، ثم قال:"أَرَضِيتُمْ؟ ". قالوا: نعم (11). وهذا يُبيِّنُ أنه لم يأخُذْ بعِلْمِه.
ورُوِيَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، رضي الله عنه، أنَّه قال: لو رأيتُ حَدًّا على رجلٍ، لم أحُدَّه (12) حتى تَقومَ البَيِّنَةُ. ولأنَّ تَجْويزَ القضاءِ بعِلْمِه يُفْضِي إلى تُهْمَتِه، والحُكْمِ بما اشْتهَى، ويُحِيلُه على عِلْمِه. فأمَّا حديثُ أبي سفيانَ، فلا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه فُتْيَا لا حُكمٌ، بدليلِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أفْتَى في حقِّ أبي سُفْيانَ مِن غيرِ حُضورِه، ولو كانَ حُكْمًا عليه لم يَحْكُمْ عليه في غَيْبَتِه. وحديثُ عمرَ الذي رَوَوه، كان إنْكارًا لمُنْكَرٍ رَآهُ، لا حُكْم (13)، بدليلِ أنَّه ما وُجِدَتْ منهما دَعْوَى وإنْكارٌ بشُروطِهما، ودليلُ ذلك ما رَويناه عنه، ثم لو كان حُكْمًا، كان مُعارَضًا بما رَويْناه عنه، ويفارِقُ الحُكْمَ بالشَّاهِدَيْن؛ فإنَّه لا يُفْضِي إلى تُهْمَةٍ، بخلافِ مَسْألتِنا. وأما الجَرْحُ والتَّعْديلُ، فإنَّه يَحْكُمُ فيه بعِلْمِه، بغيرِ خلافٍ؛ لأنَّه لو لم يَحْكُمْ فيه بعِلْمِه، لتَسلْسَلَ، فإنَّ المُزَكِّيَيْنِ يَحْتاجُ إلى مَعْرفةِ عَدالتهما وجَرْحِهما، فإذا لم يَعْمَلْ بعِلْمِه، احْتاجَ كلُّ واحدٍ منهما إلى مُزَكِّيَيْنِ، ثم كلُّ واحدٍ منهما يحْتاجُ إلى مُزَكِّيَيْنِ، فيَتسَلْسَلُ، وما نحنُ فيه بخلافِه.
فصل:
ولا خلافَ في أنَّ للحاكمِ أنْ يَحْكُمَ بالبَيِّنَةِ والإقْرارِ في مجلسِ حُكْمِه، إذا سَمِعَه معه شاهِدَانِ، فإنْ لم يَسْمَعْه معه أحدٌ، أو سَمِعَه شاهدٌ، فنَصَّ أحمدُ على أنَّه يَحْكُمُ به. وقال القاضي: لا يَحْكُمُ به حتى يَسْمعَه معه شاهِدَان؛ لأنَّه حَكَمَ بعِلْمِه.
(11) أخرجه أبو داود، في: باب العامل يصاب على يديه خطأ، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 489. والنسائي، في: باب السلطان يصاب على يديه، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 31. وابن ماجه، في: باب الجارح يفتدى بالقود، من كتاب الديات 2/ 881. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 232.
(12)
في ب زيادة: "منه".
(13)
كذا ورد في النسخ.
1868 -
مسألة؛ قال: (وَلَا يَنْقُضُ (1) مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ، إلَّا مَا خالَفَ نصَّ كِتَابٍ، أوْ سُنَّةٍ، أوْ إِجْمَاعًا)
وجملةُ ذلك أنَّ الحاكمَ إذا رُفعَتْ إليه قَضِيَّةٌ قد قضَى بها حاكمٌ سِواهُ، فبانَ له خَطؤُه، أو بانَ له خطأُ نَفْسِه، نَظَرْتَ؛ فإن كان الخطأُ لِمُخالفةِ نَصِّ كتابٍ أو سنَّةٍ أو إجْماعٍ، نَقَضَ حُكْمَه. وبهذا قال الشَّافعىُّ، وزادَ: إذا خالفَ قِياسًا (2) جَلِيًّا نَقَضَه. وعن مالكٍ، وأبى حنيفةَ، أنَّهما قالا: لا يَنْقُضُ الحُكْمَ إلَّا إذا خالفَ الإجْماعَ. ثم ناقَضا ذلك، فقال مالكٌ: إذا حَكَمَ بالشُّفعةِ للجارِ نَقَضَ حُكْمَه. وقال أبو حنيفةَ: إذا حكمَ بِبَيْعٍ مَتْروكِ التَّسْمِيَةِ، أو حَكَمَ بينَ العَبِيدِ بالقُرْعةِ، نَقَضَ حُكْمَه. وقال محمدُ ابنُ الحسنِ: إذا حكمَ بالشَّاهدِ واليَمِينِ، نَقَضَ حُكْمَه. وهذه مسائلُ خلافٍ مُوافقةٌ للسُّنَّةِ. واحْتَجُّوا على أنَّه لا ينْقُضُ ما لم يُخالفِ الإجْماعَ بأنَّه يَسُوغُ فيه الخلافُ، فلم يَنْقُضْ حُكْمَه فيه، كما لا نَصَّ فيه. وحُكِىَ عن أبي ثَوْرٍ، وداودَ، أنَّه يَنْقُضُ جميعَ ما بانَ له خَطؤُه؛ لأنَّ عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، كتبَ إلى أبى موسى: لا يَمْنَعنَّك قَضاءٌ قَضَيْتَه بالأمْسِ، ثم رَاجَعْتَ نفسَك فيه اليومَ، فهُدِيتَ لرُشْدِكَ (3)، أن تُراجِعَ فيه الحقَّ؛ فإنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ من التَّمادِى فى الباطلِ (4). ولأنَّه خطأٌ، فوجبَ الرُّجوعُ عنه، كما لو خالفَ الإجْماعَ. وحُكىَ عن مالكٍ أنَّه وافَقَهما فى قَضاءِ نَفْسِه. ولَنا، على نَقْضِه إذا خالفَ نَصًّا أو إجْماعًا، أنَّه قَضاءٌ لم يُصادِفْ شَرْطَه، فوجبَ نَقْضُه، كما لو لم يُخالِفِ الإجْماعَ، وبَيانُ مُخالَفتِه للشَّرطِ، أنَّ شرطَ الحُكْمِ بالاجْتهادِ عَدمُ النَّصِّ، بدليلِ خبرِ مُعاذٍ، ولأنَّه إذا تَركَ الكتابَ والسُّنَّةَ، فقد فَرَّطَ، فوجبَ نَقْضُ حُكْمِه، كما
(1) فى الأصل: "ينتقض".
(2)
فى م: "نصا".
(3)
فى الأصل: "إلى رشدك".
(4)
أخرجه الدارقطنى، فى: باب كتاب عمر رضى اللَّه عنه إلى أبى موسى الأشعرى، من كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطنى 4/ 206، 207.
لو خالفَ الإجْماعَ، أو كما لو حَكَمَ بشَهادةِ كافِرَيْنِ. وما قالُوه يَبْطُلُ بما حَكَيْناه عنهم. فإن قيل: أليس إذا صَلَّى بالاجْتهادِ إلى جِهَةٍ، ثم بان له الخطأُ لم يُعِدْ؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينهما مِن ثلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحدِها، أنَّ اسْتِقْبالَ القِبْلةِ يَسْقطُ حالَ العُذْرِ (5)، فى حالِ المُسايَفَةِ (6) والخوفِ من عَدُوٍّ [أو سَيْلٍ](7) أو سَبُعٍ أو نحوِه، مع العلمِ، ولا يجوزُ تَرْكُ الحقِّ إلى غيرِه مع العِلْمِ بحالٍ. الثانى، أنَّ الصَّلاةَ مِن حُقوق اللهِ تعالى، تَدْخلُها المُسامَحةُ. الثالث، أنَّ القِبلةَ يَتكرَّرُ فيها اشْتِباهُ القِبْلةِ، فيشُقُّ القَضاءُ. [و](8) هاهُنا إذا بانَ له الخطأُ لا يعودُ الاشْتِبَاهُ بعدَ ذلك. وأمَّا إذا تغيَّرَ اجْتهادُه مِن غيرِ أن يُخالِفَ نَصًّا ولا إجْماعًا، أو خالفَ اجْتهادُه اجتهادَ مَن قَبْلَه، لم ينقُضْه (9) لمُخالفتِه؛ لأنَّ الصحابةَ، رضىَ اللهُ عنهم، أجْمَعُوا على ذلك، فإنَّ أبا بكرٍ حكَمَ فى مسائلَ باجْتهادِه، وخالفَه عمرُ، ولم يَنْقُضْ أحكامَه، وعلىٌّ خالفَ عمرَ فى اجْتهادِه، فلم يَنْقُضْ أحْكامَه، وخالفَهما علىٌّ، فلم يَنْقُضْ أحْكامَهما، فإنَّ أبا بكرٍ سَوَّى بين الناسِ فى العَطاءِ، وأعْطى العَبِيدَ، وخالفَه عمرُ، ففاضلَ بين الناسِ، وخالفَهما علىٌّ فَسوَّى بين الناسِ وحَرَمَ العَبِيدَ، ولم يَنْقُضْ واحدٌ منهم ما فعلَه مَن قَبْلَه (10)، وجاءَ أهلُ نَجْرانَ إلى علىٍّ فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، كتابُكَ بيَدِكَ، وشَفاعتُك بلسانِكَ. فقال: وَيْحَكُمْ، إنَّ عمرَ كان رَشِيدَ الأمرِ، ولن أرُدَّ قَضاءً قَضَى به عمرُ. رواه سعيدٌ (11). ورُوِىَ أنَّ عمرَ حكَمَ فى المُشرَّكةِ بإسْقاطِ الإخْوةِ من الأبَويْن، ثم شَرَّكَ (12) بينهم بعدُ، وقال: تلك
(5) فى الأصل زيادة: "فيه".
(6)
فى الأصل، أ:"المسابقة".
(7)
سقط من: ب، م.
(8)
تكملة لازمة.
(9)
فى الأصل: "ينتقضه".
(10)
انظر ما تقدم فى: 9/ 30.
(11)
وأخرجه البيهقى، فى: باب من اجتهد من الحكام ثم تغير اجتهاده. . .، من كتاب آداب القاضي. السنن الكبرى 10/ 120.
(12)
فى الأصل: "يشرك".