الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب العِتْقِ
العِتْقُ فى اللُّغَةِ: الخُلوصُ. ومنه عِتاقُ الْخَيْلِ، وعِتاقُ الطِّيْرِ، أى خالِصَتُها، وسُمِّىَ البَيْتُ الحَرامُ عَتِيقًا، لخُلوصِهِ من أَيدى الجبابِرَةِ. وهو فى الشَّرْعِ: تَحْريرُ الرَّقَبَةِ، وتخليصُها من الرِّق. يُقال (1): عَتَقَ العَبْدُ، وأعتَقْتُه أنا، وهو عَتِيقٌ، ومُعتَقٌ (2). والأَصْلُ فيه الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإِجْماعُ. أمَّا الكِتابُ، فقولُ اللَّه تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (3). وقال اللَّه تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} (4). وأما السُّنَّةُ، فما رَوَى أبو هُرَيْرَة، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُومِنَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إرْبٍ مِنْهَا إرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، حَتَّى إنَّهُ لَيُعْتِقُ الْيَدَ بِاليَدِ، والرجْلَ بالرِّجْلِ، والْفَرْجَ بالفَرْجِ". مُتَّفَقٌ عليه (5). فى أخبارٍ كثيرةٍ سِوَى هذا. وأَجْمَعَتِ الأَمَّةُ على صِحَّةِ العِتْقِ، وحصولِ القُرْبَةِ به.
فصل: والعِتْقُ من أَفْضَلِ القُرَبِ إلى اللَّه تعالى؛ لأنَّ اللَّه تعالى جعلَهُ كفَّارَةً للقتلِ، والوَطْءِ فى رمضانَ، والأَيْمانِ، وجعلَه النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم فِكَاكًا لمُعْتِقِه من النَّار، ولِأَنّ فيه [تخْلِيصَ الْآدَمِى](6) المعصومِ من ضَرَرِ الرِّقِّ، ومِلْكَ نَفْسِه ومنافعِه، وتَكْمِيلَ أحكامٍ، وتَمَكُّنَه من التصرُّفِ فى نَفْسِه ومَنافِعه، على حَسْبِ إرادتِهِ واخْتيارِهِ. وإِعتاقُ
(1) سقط من: الأصل، أ.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
سورة المجادلة 3.
(4)
سورة البلد 13.
(5)
أخرجه البخارى، فى: باب قول اللَّه تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. . .} من كتاب الكفارات. صحيح البخارى 8/ 181. ومسلم، فى: باب فضل العتق، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1147.
كما أخرجه الترمذى، فى: باب ما جاء فى ثواب من أعتق رقبة، من أبواب النذور. عارضة الأحوذى 7/ 25. والإمام أحمد، فى: المسند 2/ 420، 422، 429، 431.
(6)
فى ب، م:"تخليصا للآدمى".
الرَّجُلِ أفضلُ من إعْتاقِ المرأةِ؛ لما رَوَى كَعْبُ بن مُرَّة البَهْزِىّ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا، كانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّار، يُجْزَى بكلِّ عَظْمٍ من عظامِهِ عَظْمًا من عظامِهِ، وأيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أعْتَقَ امرَأتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كانتا فِكاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزَى بِكُلِّ عَظْمٍ من عِظامِهِمَا عَظْمًا مِنْ عِظامِهِ، وأيُّمَا امرأةٍ مُسْلِمَةٍ أعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، كانَتْ فِكاكَهَا من النَّارِ، تُجْزَى بكُلِّ عَظْمٍ من عِظامِها عَظْمًا من عِظامِها"(7). والمُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ له دِينٌ وكسْبٌ يَنْتَفِعُ بالعِتْقِ، فأمّا من يتضرَّرُ بالعِتْقِ، كمَنْ لا كَسْبَ له، تسْقُطُ نفقَتُهُ عن سيِّدِهِ بإعْتاقِه (8)، فيَضيعُ، أو يصيرُ كَلًّا على النَّاسِ، ويحْتاجُ إلى المسْأَلَةِ، فلا يُسْتَحَبُّ عِتْقُه. وإن كان ممَّنْ يُخَافُ عليه المُضِىُّ إلى دار الحَرْبِ، والرُّجوعُ عن دِينِ (9) الإِسْلامِ، أو يُخافُ عليه الفَسادُ، كعَبْدٍ يُخافُ أنَّه إذا أُعْتِقَ واحْتاجَ سَرَقَ، وفسقَ، وقطَعَ الطرَّيقَ، أو جارِيَةٍ يُخافُ منها الزِّنَى والفسادُ، كُرِهَ إعْتاقُهُ. وإن غَلَبَ على الظَّنِّ إفْضاؤُهُ إلى هذا، كان مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ التَّوَسُّلَ إلى الحرامِ حرامٌ. وإن أَعْتَقَهُ صَحَّ؛ لأَنَّهُ إعْتاقٌ صَدَرَ من أهْلِهِ فى مَحلِّهِ، فصَحَّ، كإعْتاقِ غيرِه.
فصل: ويحْصُلُ العِتْقُ بالقَوْلِ، والمِلْكِ، والاسْتِيلادِ (10). ونذكُرُ ذلك فى مواضِعِهِ إن شاء اللَّه تعالى. ولا يحْصُلُ بالنِّيَّةِ المُجرَّدَةِ؛ [لِأَنَّهُ إزالةُ مِلْكٍ، فلا يحْصُلُ بالنِّيَّةِ المجرَّدة](11)، كسائِرِ الإزالَةِ. وألْفاظُهُ تنْقسِمُ إلى صرِيحٍ وكنايةٍ؛ فالصَّريحُ لفظُ الحُرِّيَّةِ، والعِتْقِ، وما تصرَّفَ منهما، نحو: أنت حُر، أو محرَّرٌ، أو عَتيقٌ، أو مُعْتَقٌ، أو أَعْتَقْتُكَ. لأنَّ هذين اللَّفْظَيْنِ ورَدا فى الكتابِ والسُّنَّةِ، وهما يُسْتَعمَلانِ فى العِتْقِ عُرْفًا، فكانا صَرِيحَيْنِ فيه، فمتى أتَى بشَىْءٍ من هذه الألفاظِ، حصَلَ به العِتْقُ، وإن لم يَنْوِ شَيْئًا، عَتَقَ أيضًا. قال أحمدُ، فى رجُلٍ لقِىَ امرأةً فى الطريقِ، فقال: تَنَحَّىْ يا حُرَّةُ. فإذا
(7) أخرجه أبو داود، فى: باب أى الرقاب أفضل، من كتاب العتق. سنن أبى داود 2/ 354، 355. وابن ماجه، فى: باب العتق، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 843. والإمام أحمد، فى: المسند 4/ 235، 321.
(8)
سقط من: م.
(9)
فى أ: "دار".
(10)
فى الأصل: "والإسلام".
(11)
سقط من: أ. نقل نظر.
هى جاريتُهُ، قال: قد عَتَقَتْ عليه. وقال فى رجلٍ قال لخَدَمٍ قِيامٍ فى وَلِيمَةٍ: مُرُّوا، أنتُم أحْرارٌ. وكانتْ معَهم أمُّ وَلَدٍ له، لم يعْلَمْ بها، قال: هذا عندى تَعْتِقُ أُمُّ ولَدِهِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَعْتِقَ فى هذَيْن الموضِعَيْن؛ لِأَنَّه قصَد باللَّفظةِ الأولَى غيرَ العِتْقِ، فلم تَعْتِقْ بها، كما لو قال: عبدى حُرٌّ. يُرِيدُ أنَّه عَفيفٌ كريمُ الأخلاقِ، وباللَّفْظَةِ الثانية أراد غيرَ أُمِّ وَلَدِهِ، فأشْبَهَ ما لو نادَى امرأةً من نِسائِهِ، فأجابَتْهُ غيرُها، فقال: أنتِ طالِقٌ. يحسَبُها التى نادَاها، فإِنَّها لا تَطلُقُ، على رِوايَةٍ، فكذا ههُنا. فأمَّا إن قصَد غيرَ العِتْقِ، كالرَّجُلِ يقولُ: عبدى هذا حُرٌّ. يُرِيدُ عِفَّتَه، وكرَمَ أخلاقِهِ. أو يقولُ لعبدِهِ: ما أنتَ إِلَّا حُرٌّ. أى: إنَّكَ لا تُطيعُنى، ولا تَرَى لى عَلَيْكَ حقا ولا طاعَةً، فلا يَعْتِقُ فى ظاهِرِ المذهبِ. قال حَنْبَلٌ: سُئِلَ أبو عبدِ اللَّهِ، عن رجُلٍ قال لِغُلامِهِ: أنت حُرٌّ. وهو يُعاتِبُهُ؟ فقال: إذا كان لا يُرِيدُ بهِ العِتْقَ، يقولُ: كأنَّك حُرٌّ، ولا يُرِيدُ أن يكونَ حُرًّا، أو كلامًا نحوَ (12) هذا، رَجَوْتُ أن لا يَعْتِقَ، وأنا أهابُ المَسْأَلَةَ؛ لأنَّهُ نوَى بكلامِه ما يَحْتَمِلُه، فانْصَرَفَ إليه، كما لو نَوَى بكنايةِ العِتْقِ العِتْقَ (13). وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. قال: وإن طُلِبَ اسْتِحْلافُه، حلَفَ. وبيانُ احتمالِ اللَّفْظِ لما أرادَهُ، أَنَّ المرأةَ الحُرَّةَ تُمْدَحُ بهذا، فيُقالُ: أمْرأةٌ حُرةٌ. يعنُونَ عفِيفَةً، وتُمْدَحُ المملوكَةُ به أيضًا، ويقال للحَيِىِّ الكَريمِ الأخلاقِ: حُرٌّ. قالت سُبَيْعَةُ تَرْثِى (14) عبدَ المُطَّلِبِ:
ولَا تَسْأَما أَنْ تَبْكِيا كُلَّ لَيْلَةٍ
…
ويَوْمٍ على حُرٍّ كَرِيمِ الشمائِلِ
وأمَّا الكِنايةُ، فنحوُ قولِهِ: لا سبيلَ لى عليكَ، ولا سُلْطانَ لى عليكَ، وأنتَ سائِبةٌ، واذهَبْ حيثُ شِئْتَ، وقد خلَّيْتُك. فهذا إن نَوَى به العِتْقَ، عَتَقَ؛ لِأنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، وإن لم يَنْوِهِ بهِ لم يَعْتِقْ؛ لِأنَّهُ يَحْتَمِلُ غيرَه. ولم يرِدْ به كتابٌ، ولا سُنَّةٌ، ولا عُرْفُ اسْتِعمالٍ. وذكر القاضى، وأبو الخَطَّابِ، فى قولِهِ: لا سبيلَ لى عليكَ، ولا سُلْطان لى عليكَ. روايَتَيْنِ؛ إحداهما، أنَّه صرِيحٌ. والثانية، أنَّه (15) كنايَةٌ، ، هو الصَّحِيحُ؛ لما ذكرْناه. فأمَّا إن
(12) فى أ، ب:"شبه".
(13)
سقط من: ب.
(14)
لعلها سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف: انظر ترجتمها فى: أعلام النساء، لكحالة 2/ 148. وبعض خبرها فى: الأغانى 22/ 68، 69، 73.
(15)
فى الأصل، أ:"أنها".
قال: لا رِقَّ لى عليكَ، ولا مِلْكَ لى عليكَ، وأنتَ للَّهِ. فقال القاضى: هو صريحٌ. نَصَّ عليهِ أحمدُ. وذكَرَ أبو الخَطَّابِ فيه رِوايَتَيْنِ. ولا خلافَ فى المذهبِ أنَّه يَعْتِقُ به إذا نَوَى، وممَّن قال: يَعْتِقُ بقولِهِ: أنتَ للَّهِ. إذا نَوَى؛ الشَّعْبِىُّ، والمُسَيَّبُ بنُ رافعٍ، وحَمَّادٌ، والشَّافِعِىُّ. وقال أبو حنِيفَةَ: لا يَعْتِقُ به؛ لأنَّ مُقْتَضاهُ، أنت عَبْدٌ للَّهِ (16)، أو مخلوقٌ للَّهِ وَحْدَه (17). وهذا لا يقْتضِى العِتْقَ. ولَنا، أنَّهُ يَحْتمِل: أنتَ (18) حُرٌّ للَّهِ، أو عَتيقٌ للَّهِ، أو عبدٌ للَّهِ وحدَهُ، لستَ بعبدٍ لى، ولا لأحَدٍ سِوَى اللَّهِ. فإذا نَوَى الحُرِّيَّةَ به، وقعَتْ، كسائِرِ الكِناياتِ. وما ذكَروهُ لا يصِحُّ؛ لأنَّ احتمالَهُ لما ذكَروهُ لا يَمْنَعُ احتمالَهُ لما ذِكَرْناه، بدَليلِ سائِرِ الكِناياتِ، فإنَّها تَحْتَمِلُ العِتْقَ وغيرَه، ولو لم تَحْتَمِلْ إِلَّا العِتْقَ لكانتْ صَرِيحَةً فيه، وما احْتَمَلَ (19) أمرَيْنِ، انْصرَفَ إلى أحدِهما بالنِّيَّةِ، وهذا شَأْنُ الكِناياتِ. وما ذكَرَهُ (20) من الاحْتمالِ (21) يدُلُّ على أَنَّ هذا ليس بصَرِيحٍ، وإنَّما هو كِنايَةٌ. وقولُه: لا مِلْكَ لى عليكَ، ولا رِقَّ لى عليكَ، خبرٌ عن انْتِفاءِ مِلْكِهِ ورِقِّهِ، لم يَرِدْ به شَرْعٌ، ولا عُرْفُ اسْتِعمالٍ فى العِتْقِ، فلم يكُنْ صَرِيحًا فيه، كقولِهِ: ما أنتَ عَبْدِى، ولا مَمْلوكِى. وقولِه لامرأتِهِ: ما أَنْتِ امرَأتِى، ولا زَوْجَتِى.
فصل: وإن قال لأمَتِهِ: أنتِ طالِقٌ. ينوِى العِتْقَ به، ففيه رِوايَتانِ؛ إحْداهما، لا تَعْتِقُ به. وهو قولُ أبى حنيفَةَ؛ لأنَّ الطَّلاقَ لفْظٌ وُضِعَ لازالَةِ المِلْكِ عن المَنْفعَةِ، فلم يُزَلْ به المِلْكُ عن الرَّقَبَةِ (22)، كفَسْخِ الإِجارةِ، ولأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لا يُسْتَدْرَكُ بالرَّجْعَةِ، فلا ينْحَلُّ بالطَّلاقِ، كسائِرِ الأمْلاكِ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، هو كِنايةٌ تَعْتِقُ بِهِ الأمَةُ إذا [نَوَى العِتْق](23). وهو قولُ مالِكٍ، والشَّافِعِىِّ؛ لأنَّ الرِّقَّ أحدُ المِلْكَيْنِ على الآدَمِىِّ، فيزُولُ
(16) فى ب، م:"اللَّه".
(17)
سقط من: أ، ب، م.
(18)
فى ب، م:"أنه".
(19)
فى م: "يحتمل".
(20)
فى أ، ب، م:"ذكروه".
(21)
فى الأصل: "الاحتمالات".
(22)
فى م: "الرقة".
(23)
فى الأصل، أ:"نواه".
بلفظِ الطَّلاقِ، كالآخَرِ، أو فيكونُ اللَّفْظُ الموضوعُ لإِزالَةِ أحدِهما كنايةً فى إِزالةِ الآخَرِ، كالحُرِّيَّةِ فى إزالة النِّكاحِ، ولِأنَّ فيه معنَى الإِطْلاقِ، فإذا نَوَى به إطْلاقَها من مِلْكِهِ، فقد نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُهُ، فتَحْصُلُ به الحُرِّيَّةُ، كسائِرِ كِناياتِ العِتْقِ.
فصل: فإنْ قال لأكْبَرَ منهُ، أو لِمَنْ لا يُولَدُ لمثلِهِ: هذا ابْنِى. مثل أن يقولَ مَنْ له عِشرون سنة لِمَنْ له خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً: هذا ابْنِى. لم يَعْتِقْ، ولم يَثْبُتْ نَسَبُه. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ. وخرَّجَه أبو الخَطَّابِ وَجْهًا لَنا؛ لِأنَّهُ اعْترَفَ بما تثْبُتُ به حُرِّيتُه، فأشبَهَ ما لو أقَرَّ بها. ولَنا، أنَّهُ قولٌ يتَحَقَّقُ كَذِبُه فيه، فلم تثبُتْ به الحُرِّيَّةُ، كما لو قال لطِفْلٍ: هذا أبى. أو لطِفْلَةٍ: هذه أُمِّى. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا من قولِ النُّعمانِ شاذٌّ، لم يسْبِقْهُ أحدٌ إليه، ولا تَبِعَهُ أحدٌ عليه، وهو مُحالٌ من الكَلامِ، وكَذِبٌ يَقينًا، ولو جازَ هذا، لجَازَ أن يقولَ الرَّجُلُ لطِفْلٍ: هذا أبى. ولأنَّهُ لو قال لزَوْجَتِهِ، وهى أَسَنُّ منه: هذه ابْنَتِى. أو قال لها، وهو أسَنُّ منها: هذه أُمِّى. لم تَطْلُقْ، كذا هذا.
فصل: فإنْ قال لأَمَتِهِ: أنتِ حَرامٌ علىَّ. ينْوِى به العِتْقَ، عَتَقَتْ. وذكَرَ أبو الخَطَّابِ أَنَّ فيها رِوايَةً أُخْرَى، لا تَعْتِقُ. كقوله لها: أنتِ طالِقٌ. والصَّحيحُ أنَّها تَعْتِقُ به؛ لِأنَّه يَحْتَمِلُ، أنَّكِ (24) حرامٌ علىَّ، لكَوْنِكِ حُرَّةً. فتَعْتِقُ به، كقولِه: لا سبيلَ لى عليكِ.
فصل: ويصِحُّ العِتْقُ من كُلِّ مَنْ يجوزُ تَصَرُّفُه فى المالِ، وهو البالِغُ العاقِلُ الرَّشيدُ، سَواءٌ كان مسلِمًا، أو ذِمِّيًّا، أو حَرْبِيًّا. ولا نعلَمُ فى هذا خِلافًا، إِلَّا عن أبى حنيفةَ ومَنْ وافَقَه، فى أَنَّ عِتْقَ الحَرْبِىِّ لا يصِحُّ؛ لأنَّه لا مِلْكَ له على التَّمامِ، بدلِيلِ إباحةِ أخْذِه (25) منه، وانْتِفاءِ عِصْمَتِهِ فى نفسِه ومالِه. ولَنا، أَنَّهُ يصِحُّ طلاقُهُ، فصَحَّ إعْتاقُهُ، كالذِّمِّىِّ. ولِأنَّهُ مالِكٌ، بالِغٌ، عاقِل، رشيدٌ، فصَحَّ إعتاقُهُ، كالذِّمِّىِّ. وقولُهم: لا مِلْكَ له. لا يصِحُّ؛ فإنَّهم (26) قد قالوا: إنَّهم يَمْلِكُونَ أمْوالَ المسلمين بالقهْرِ، فلَأَنْ يثْبُتَ المِلْكُ لهم فى غيرِ ذلك أَوْلَى.
(24) فى م: "أنت".
(25)
فى م: "أخذ الجزية".
(26)
فى ب: "لأنهم".
فصل: ولا يصِحُّ من غيرِ جائزِ التَّصَرُّفِ، فلا يَصِحُّ عِتْقُ الصَّبِىِّ، والمجنونِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا قولُ عامَّةِ أهْلِ العلمِ، وممَّن حفِظْنا عنه ذلِكَ؛ الحسنُ، والشَّعْبِىُّ، والزُّهْرِىُّ، ومالِكٌ، والشَّافِعِىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ؛ وذلك لقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ"(27). ولأنَّهُ تَبَرُّعٌ بالمالِ، فلم يَصِحَّ منهما، كالهِبَةِ. ولا يَصِحُّ عِتْقُ السَّفِيهِ المَحْجُورِ عليه، وهو قَوْلُ القاسِمِ بنِ محمدٍ. وذكَرَ أبو الخطَّابِ فيه رِوايةً أُخْرَى، أنَّه يصِحُّ عِتْقُه، قِياسًا على طَلاقِهِ وتَدْبيرِهِ. ولَنا، أنَّه مَحْجورٌ عليه فى مالِهِ لحَظِّ نفسِهِ، فلم يَصِحَّ عِتْقُهُ، كالصَّبِىِّ، ولِأنَّه تَصَرُّفٌ فى المالِ فى حياتِهِ، فأَشْبَهَ بَيْعَهُ، وهِبَتَه. ويُفارِقُ الطَّلاقَ؛ لأنَّ الحَجْرَ عليه فى مالِه، والطَّلاقُ ليس بتَصَرُّفى فيه. ويُفارِقُ التَّدْبيرَ؛ لِأَنَّه تصَرُّفٌ فيه بعدَ مَوْتِهِ، وغِناهُ عنه بالمَوْتِ، ولهذا صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ، ولم تصِحَّ هِبَتُه المُنْجَزَةُ. وعِتْقُ السَّكْرانِ مَبْنِىٌّ على طلاقِه، وفيه من الخِلافِ ما فيه. ولا يَصِحُّ عِتْقُ المُكْرَهِ، كما لا يَصِحُّ طلاقُه، ولا بَيعُه، ولا شَىْءٌ من تَصرُّفاتِه.
فصل: ولا يصِحُّ العِتْقُ من غيرِ المالِكِ، فلو أعْتَقَ عبدَ (28) ولَدِه الصغيرِ، أو يتيمِهِ الذى فى حِجْرِهِ، لم يصِحَّ. وبهذا قال الشَّافِعِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالِكٌ: يصِحُّ عِتْقُ عبدِ وَلَدِهِ الصغيرِ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ"(29). ولأنَّ له (30) عليه وِلَايةً، وله فيه حَقٌّ، فصَحَّ إعْتاقُهُ كمالِه. ولَنا، أنَّه عِتْقٌ من غير مالِكٍ، فلم يصِحَّ، كإعْتاق عبدِ وَلَدِهِ الكبيرِ. قال ابن المُنْذِرِ: لمَّا وَرَّثَ اللَّه الأبَ من مالِ ابنِهِ السُّدسَ مع وَلَدِهِ، دَلَّ على أنَّه لا حَقَّ له فى سائِرِه. وقولُه صلى الله عليه وسلم:"أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ". لم يُرِدْ به حقيقةَ المِلْكِ، وإنَّما أرادَ المُبالغَةَ فى وُجوبِ حَقِّه عليك، وإمْكانِ الأَخْذِ من مالِكَ، وامتِناعِ مُطالَبَتِكَ له بما أخَذَ منه، ولهذا لا يَنْفُذُ إعْتاقُهُ لعبدِ وَلَدِهِ الكبيرِ، الَّذى ورَدَ الخبرُ فيه، وثُبوتُ الوِلايَةِ له على
(27) تقدم تخريجه، فى: 2/ 50.
(28)
فى م: "عبيد".
(29)
تقدم تخريجه، فى: 4/ 309.
(30)
فى الأصل: "وليس".