الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الاحتجاج بالضعيف في المغازي والسير، وهل يلزم نقد الأخبار التاريخية
؟
تسامح كثير من الأئمة في رواية بعض أخبار السيرة النبوية استنادا لما شاع عن بعض كبار الأئمة كالإِمام أحمد حيث يقول: ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث -يعني: المغازي ونحوها- وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا، وقبض أصابع يديه الأربعة
(1)
.
وعلى ضوء هذا التسامح جاء بعض أخبار السيرة غريبا في أسلوب قد لا يثبت عند التحقيق، وقد كان بعض الناس يستثيرهم كل غريب وعجيب، وكانوا يميلون إلى المبالغة والتهويل، مما أدى بكثير منهم إلى حشو الأخبار العجيبة والأمور الغريبة
(2)
، مما جعل كثيرا من العلماء لا يثق بجل ما ينقله المؤرخون، ومن هنا نادى كثير من المحققين قديما وحديثا بضرورة تنقيح السيرة النبوية والتاريخ الإِسلامي بصفة عامة، وإخضاعهما إلى معايير النقد، وموازين الجرح والتعديل عند أهل الحديث، فيثبت ما كان مقبولا لدى المحدثين، وينفي ما عداه من ضعيف أو موضوع.
(1)
انظر: عيون الأثر لابن سيد الناس 1/ 12.
(2)
من ذلك قصص الأنبياء للثعلبي المسمى عرائس المجالس، وفتوح الشام للواقدي، وسيرة البكري التي أفتى ابن حجر الهيتمي وجلال الدين السيوطي بأنه لا تجوز قراءتها لأن غالبها باطل وكذب، وقد اختلط فحرم الكل حيث لا يتميز.
انظر: الفتاوى الحديثية ص 138، الحاوي للفتاوى 1/ 571.
قال الكافيجي
(1)
: ينبغي أن يشترط في المؤرخ ما يشترط في راوي الحديث من العقل والضبط والإِسلام والعدالة، ليكون كل واحد منهما معتمدا في أمر الدين، وأمينا فيه، ولتزداد الرغبة في تاريخه، وللاحتراز عن المجازفة، فيحصل له الأمن من الوقوع في الضلالة والإِضلال، ولابد له -يعني: المؤرخ- من مستند في تاريخه، فإن قلت: فما المستند؟ قلت: هو ما يصح له من أصله أن يروى ما رواه، ويقبل منه، فإن لم يحصل له ما فيه مستند لم يجز له شيء من ذلك شرعًا
(2)
.
وقال ابن خلدون
(3)
: وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب، ومطية الهذر، ولابد من ردها إلى الأصول
(1)
هو: محيي الدين محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الكافيجي الإمام المحقق، علامة وقته، أستاذ الدنيا في المعقولات، وصاحب المصنفات، المتوفى سنة تسع وسبعين وثمانمائة.
انظر: حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 549، الضوء اللامع 7/ 259.
(2)
مختصر علم التاريخ للكافيجي ص 336.
(3)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد الحضرمي الأشبيلي التونسي المالكي المعروف بابن خلدون العلامة المؤرخ، ولى قضاء المالكية بالقاهرة، ثم عزل وولي مشيخة البيبرسية ثم عزل عنها، صنف تاريخه الكبير في سبعة مجلدات كبار، مات سنة ثمان وثمانمائة.
انظر: شذرات الذهب 7/ 76 - 77.
وعرضها على القواعد
(1)
.
وقال التاج السبكي
(2)
نقلا عن والده
(3)
: يشترط في المؤرخ الصدق، وإذا نقل يعتمد على اللفظ دون المعنى، وألا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك، وأن يسمي المنقول عنه
(4)
.
وقال السخاوي: وأما شرط المعتني به -يعني: التاريخ- فالعدالة مع الضبط التام الناشئ عنه مزيد الإِتقان والتحري، سيما فيما يراه في كلام كثير من جهلة المتعنتين بسير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
(5)
.
وهكذا نجد هؤلاء الأئمة ينادون بكتابة التاريخ العام، والسيرة النبوية جزء منه على ضوء القواعد المعروفة عند علماء الحديث، لكنهم أطلقوا الأمر فحتموا كتابة جميع ما يتعلق بالتاريخ على ضوء تلك القواعد
(1)
مقدمة ابن خلدون ص 7.
(2)
هو: تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي الإمام البارع المتفنن في سائر العلوم.
له: شرح المنهاج، شرح مختصر ابن الحاجب، طبقات الشافعية، وغيرها، توفي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.
انظر: النجوم الزاهرة 11/ 108 - 109.
(3)
هو: تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي، الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي المتكلم، ولي قضاء دمشق ست عشرة سنة.
له: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، الابتهاج شرح المنهاج، تكملة شرح المهذب، وغيرها، توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة.
انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 3/ 47 - 53، شذرات الذهب 6/ 180 - 181.
(4)
طبقات الشافعية الكبرى 2/ 23.
(5)
الإعلان بالتوبيخ للسخاوي ص 63.
وإخضاعها لقوانين المحدثين.
والذي أراه أن يفرق بين ما يتعلق به حكم شرعي مثل كيفية تقسيم الغنيمة، وكيف يوزع الخمس، وكيف يعامل الأسرى، وعلى ذمة من ينزل العدو وبين ما لا يؤخذ منه حكم شرعي، ولا طائل تحته كعدد من رجع مع عبد الله بن أبي يوم أحد، ونحو ذلك، فيجب إخضاع النوع الأول لقوانين المحدثين، وأما النوع الثاني فلا داعي لوزنه وتحقيقه لأنه تعب ليس وراءه أرب.
وبهذا القدر ينتهي الفصل الثاني، وبانتهائه ينتهي الباب الثاني، ويليه الباب الثالث، نسال الله الإِعانة على إتمامه.